ولما كان الإنسان ربما دعا صاحبه بلقب له شيء غير قاصد به عيبه، أو فعل فعلا يتنزل على الهزء غير قاصد به الهزء، نهى تعالى عن المبادرة إلى الظن من غير تثبت؛ لأن ذلك من وضع الأشياء في غير مواضعها، الذي هو معنى الظلم فقال خاتما بالقسم الخامس منبها على ما فيه من [ ص: 378 ] المعالي والنفائس: يا أيها الذين آمنوا أي اعترفوا بالإيمان وإن كانوا في أول مراتبه اجتنبوا أي: كلفوا أنفسكم أن تتركوا وتبعدوا وتجعلوا في جانب بعيد عنكم كثيرا من الظن أي: في الناس وغيرهم فاحتاطوا في كل ظن ولا تمادوا معه حتى تجزموا به فتقدموا بسببه على ما يقتضيه من الشر إلا بعد التبين لحقه من باطله بأن يظهر عليه أمارة صحيحة وسبب ظاهر، والبحث عن ذلك الذي أوجب الظن ليس بمنهي عنه كما فتش النبي صلى الله عليه وسلم في قصة الإفك وتثبت حتى جاءه الخبر اليقين من الله، وأفهم هذا أن كثيرا منه مجتنب كما في الاجتهاد حيث لا قاطع، وكما في ظن الخير بالله تعالى، بل [قد] يجب كما [قال] تعالى: لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقد أفاد التنكير شياع النهي في كل ظن، فكان بمعنى "بعض" مع الكفالة بأن كثيرا منه منهي عن الإقدام عليه إلا بعد تبين أمره، ولو عرف لأفهم أنه لا يجتنب إلا إذا اتصف بالكثرة، قال القشيري: والنفس لا تصدق، والقلب لا يكذب، والتمييز بين النفس والقلب مشكل، ومن بقيت عليه من حظوظه بقية وإن قلت فليس له أن يدعى بيان القلب، بل هو بنفسه [ما] دام عليه شيء من بقيته، ويجب عليه أن يتهم نفسه في كل ما يقع له من نقصان غيره، [ ص: 379 ] ثم علل ذلك مثيرا إلى أن العاقل من يكف نفسه عن أدنى احتمال من الضرر احتمالا مؤكدا؛ لأن أفعال الناس عند الظنون أفعال من هو جازم بأنه بريء من الإثم: إن بعض الظن إثم أي: ذنب يوصل صاحبه لاستحقاق العقوبة كالظن في أصول الدين، وحيث يخالفه قاطع، قال رحمه الله تعالى: الهمزة في الإثم عن الواو وكأنه يثم الأعمال أي يكسرها بإحباطه. الزمخشري
ولما نهى عن اتباع الظن، أتبعه ما يتفرع عنه فقال: ولا تجسسوا أي: تمعنوا في البحث عن العورات ولا يكون ذلك إلا في المستورين.
ولما كانت الغيبة أعم من التجسس، قال: ولا يغتب أي: يتعمد أن يذكر بعضكم بعضا في غيبته بما يكره، قال القشيري: وليس تحصل الغيبة من الخلق إلا بالغيبة عن الحق، وقال أبو حيان : قال رضي الله عنهما: الغيبة إدام كلاب الناس. ابن عباس
ولما كان تمزيق عرض الناس كتمزيق أديمهم ولا يكون ذلك ساتر عظمة الذي به قوامه كما أن عرضه ساتر عليه، وكونه لا يرد عن نفسه بسبب غيبته كموته وأعمال الفم والجوف في ذلك كله، [ ص: 380 ] وكان هذا لو تأمله العاقل كان منه على غاية النفرة، ولكنه لخفائه لا يخطر بباله، جلاه له في قوله تقريرا وتعبيرا بالحب عما هو في غاية الكراهة لما للمغتاب من الشهوة [في الغيبة] ليكون التصوير بذلك رادا له عنها ومكرها فيها: أيحب وعم بقوله: أحدكم وعبر بأن والفعل تصويرا للفعل فقال: أن يأكل وزاد في التنفير بجعله في إنسان هو أخ فقال: لحم أخيه وأنهى الأمر بقوله: ميتا
ولما كان الجواب قطعا: لا يحب أحد ذلك، أشار إليه بما سبب من قوله: فكرهتموه أي: بسبب ما ذكر طبعا فأولى أن تكرهوا الغيبة المحرمة عقلا؛ لأن داعي العقل بصير عالم، وداعي الطبع أعمى جاهل، وقد رتب سبحانه هذه الحكم أبدع ترتيب، فأمر سبحانه بالتثبت. وكان ربما أحدث ضغينة، نهى عن العمل بموجبه من السخرية واللمز والنبز والتمادي مع ما ينشره ذلك من الظنون، فإن أبت النفس إلا تماديا مع الظن فلا يصل إلى التجسس والبحث عن المعايب، فإن حصل الاطلاع عليها كف عن ذكرها، وسعى في سترها، وفعل ذلك كله لخوف الله، لا شيء غيره، فإن وقع في شيء من ذلك بادر المتاب رجاء الثواب.
[ ص: 381 ] ولما كان التقدير: فاتركوه بسبب كراهتهم لما صورته، عطف عليه ما دل على العلة العظمى وهي خوف الله تعالى فقال: واتقوا الله أي اجعلوا بينكم وبين الملك الأعظم وقاية بترك ذلك وإصلاح ذات البين.
ولما كان التقدير: فإن الله يتوب عليكم إن تركتموه، علله بما دل على أن ذلك صفة له متكررة التعلق فقال: إن الله أي: الملك الأعظم تواب أي: مكرر للتوبة، وهي الرجوع عن المعصية إلى [ما] كان قبلها من معاملة التائب وإن كرر الذنب، فلا ييأس أحد وإن كثرت ذنوبه وعظمت رحيم يزيده على ذلك أن يكرمه غاية الإكرام.