ولما ذكر ما يحزن من السر لكونه اختصاصا عن الجليس بالمقال فينشأ عنه ظن الكدر وتباعد القلوب، أتبعه الاختصاص بالمجلس الذي هو مباعدة الأجسام اللازم لها من الظن ما لزم من الاختصاص بالسر في الكلام فينشأ عنه الحزن، معلما لهم بكمال رحمته وتمام رأفته بمراعاة [ ص: 375 ] حسن الأدب بينهم وإن كان من أمور العادة دون أحكام العبادة، فقال مخاطبا لأهل الدرجة الدنيا في الإيمان لأنهم المحتاجون لمثل هذا الأدب: يا أيها الذين آمنوا حداهم بهذا الوصف على الامتثال إذا قيل لكم أي من أي قائل كان فإن الخير يرغب فيه لذاته: تفسحوا أي توسعوا أي كلفوا أنفسكم في إيساع المواضع في المجالس أي الجلوس أو مكانه لأجل من يأتي فلا يجد مجلسا يجلس فيه، والمراد بالمجلس جنس المكان الذي هم ماكثون به بجلوس أو قيام في صلاة أو غيرها لأنه أهل لأن يجلس فيه. وذلك في كل عصر، ومجلس النبي صلى الله عليه وسلم أولى بذلك، وقراءة بالجمع موضحة لإرادة الجنس عاصم فافسحوا أي وسعوا فيه عن سعة صدر يفسح الله أي الذي له الأمر كله والعظمة الكاملة لكم في كل ما تكرهون ضيقه من الدارين.
ولما كانت التوسعة يكفي فيها التزحزح مع دوام الجلوس تارة وأخرى تدعو الحاجة فيها إلى القيام للتحول من مكان إلى آخر قال: وإذا قيل أي من قائل كان - كما مضى - إذا كان يريد الإصلاح [ ص: 376 ] والخير انشزوا أي ارتفعوا وانهضوا إلى الموضع الذي تؤمرون به أو يقتضيه الحال للتوسعة أو غيرها من الأوامر كالصلاة أو الجهاد وغيرهما فانشزوا [أي] فارتفعوا وانهضوا يرفع الله الذي له جميع صفات الكمال، عبر بالجلالة وأعاد إظهارها موضع الضمير ترغيبا في الامتثال لما للنفس من الشح بما يخالف المألوف الذين آمنوا وإن كانوا غير علماء منكم أيها المأمورون بالتفسح السامعون للأوامر، المبادرون إليها في الدنيا والآخرة بالنصر وحسن الذكر بالتمكن في وصف الإيمان الموجب لعلو الشأن بطاعتهم لرسوله صلى الله عليه وسلم في سعة صدورهم بتوسعتهم لإخوانهم.
ولما كان المؤمن قد لا يكون من المشهورين بالعلم قال: والذين ولما كان العلم في نفسه كافيا في الإعلاء من غير نظر إلى مؤت معين، بنى للمفعول قوله: أوتوا العلم أي وهم مؤمنون درجات درجة بامتثال الأمر وأخرى بالإيمان، ودرجة بفضل علمهم وسابقتهم - روى الطبراني في كتاب العلم عن وأبو نعيم رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ابن عباس ، رواه من جاءه أجله وهو يطلب العلم ليحيي [ ص: 377 ] به الإسلام لم يفضله النبيون إلا بدرجة واحدة الدارمي في رياضة المتعلمين عن وابن السني غير منسوب، قال شيخنا: فقيل: هو البصري فيكون مرسلا، وعن الحسن الزبير: العلم ذكر فلا يحبه إلا ذكور الرجال.
وكلما كان الإنسان أعلم كان أذكر، ولعله ترك التقييد بـ "من" في هذا وإن كانت مرادة ليفهم أن العلم يعلي صاحبه مطلقا، فإن كان مؤمنا عاملا بعلمه كان النهاية، وإن كان عاصيا كان أرفع من مؤمن عاص وعار عن العلم، وإن كان كافرا كانت رفعته دنيوية بالنسبة إلى كافر لا يعلم، ودل على ذلك بختم الآية بقوله مرغبا مرهبا: والله أي والحال أن المحيط بكل شيء قدرة وعلما بما تعملون أي حال الأمر وغيره خبير أي عالم بظاهره وباطنه، فإن كان العلم مزينا بالعمل بامتثال الأوامر واجتناب النواهي وتصفية الباطن كانت الرفعة على حسبه، وإن كان على غير ذلك فكذلك، وقدم الجار ومدخوله وإن كان علمه سبحانه بالأشياء كلها على حد سواء تنبيها على مزيد الاعتناء بالأعمال، لا سيما الباطنة من الإيمان والعلم اللذين هما الروح الأعظم، لأن المقام لنزول الإنسان عن مكانه بالتفسح والانخفاض والارتفاع، ولا يخفى [ ص: 378 ] ما في ذلك من حظ النفس الحامل على الجري مع الدسائس، فكان جديرا بمزيد الترهيب، وسبب الآية أن أهل العلم لما كانوا أحق بصدر المجلس لأنهم أوعى لما يقول صاحب المجلس، كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ، ليليني أولو الأحلام منكم والنهى وكان صلى الله عليه وسلم يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار فجاء أناس من أهل بدر منهم وقد سبق غيرهم إلى المجلس فقاموا حيال النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فرد عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ثم سلموا على القوم فردوا عليهم فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم فلم يفعلوا فقال لمن حوله من [غير] أهل بدر: قم يا فلان وأنت يا فلان، فأقام من المجلس بقدر القادمين من أهل بدر، فشق ذلك على من أقيم، وعرف النبي صلى الله عليه وسلم الكراهية في وجوههم، فقال المنافقون: ألستم تزعمون أن صاحبكم يعدل، فوالله ما عدل على هؤلاء، إن قوما أخذوا مجالسهم وأحبوا القرب من نبيهم فأقامهم وأجلس من أبطأ عنه مكانهم، فأنزل الله هذه الآية، ثابت بن قيس بن شماس وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: رواه "لا يقيم الرجل [الرجل] من مجلسه ثم يجلس فيه، ولكن افسحوا يفسح الله لكم" عن مسلم رضي الله عنهما، وقال ابن عمر بلغني الحسن: أن [ ص: 379 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قاتل المشركين فصف أصحابه رضي الله عنهم للقتال تشاحوا على الصف الأول فيقول الرجل لإخوانه: توسعوا لنلقى العدو فنصيب الشهادة، فلا يوسعون له رغبة منهم في الجهاد والشهادة، فأنزل الله هذه الآية، وهي دالة على أن الصالح إن كره مجاورة فاسق منع من مجاورته لأنه يؤذيه ويشغله عن كثير من مهماته، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: وقال: لا ضرر ولا ضرار فإن جار البادية يتحول. جار السوء في دار المقامة وقال: أعوذ بك من شر الناس من لا يأمن جاره بوائقه، فقال تعالى معظما لرسوله صلى الله عليه وسلم وناهيا عن إبرامه صلى الله عليه وسلم بالسؤال والمناجاة، ونافعا للفقراء والتمييز بين المخلص والمنافق ومحب الآخرة ومحب الدنيا،