ولما كانت إنما هي ما قاتلوا عليه، وأما ما أتى منها بغير قتال فهو فيء يأخذه الإمام فيقسمه خمسة أخماس، ثم يقسم خمسا منها خمسة أقسام، أحدها وهو كان للنبي صلى الله عليه وسلم يكون بعده لمصالح المسلمين، والأقسام الأربعة [الأخرى] من هذا الخمس لمن ذكر في الآية بعدها، والأربعة الأخماس الكائنة من أصل القسمة وهي التي كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأنها حصلت بكفايته وإرعابه للعدو، تفرق بين المرتزقة من جميع النواحي، فكانت الأموال كلها لله إنعاما على من يعبده بما شرعه على ألسنة رسله عليهم الصلاة والسلام، كانت أموال الكفار في أيديهم غصبا غصبوه [ ص: 420 ] من أوليائه، فخص سبحانه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأموال الغنائم التي تقسم بين الجيش بني النضير يضعها حيث يشاء لأنها فيء فقال: وما أفاء الله أي رد الملك الذي له الأمر كله ردا سهلا بعد أن كان فيما يظهر في غاية العسر والصعوبة على رسوله فصيره في يده بعد أن كان خروجه عنها بوضع أيدي الكفار عليه ظلما وعدوانا كما دل عليه التعبير بالفيء الذي هو عود الظل إلى الناحية التي كان ابتدأ منها منهم أي ردا مبتدئا من الفاسقين، فبين أن هذا فيء لا غنيمة، ويدخل في الفيء أموال من مات منهم عن غير وارث وكذا الجزية، وأما الغنيمة فهي ما كان بقتال وإيجاف خيل وركاب.
ولما كان الحرب إنما هو كر وفر في إسراع وخفة ورشاقة بمخاتلة الفرسان ومراوغة الشجعان ومغاورة أهل الضرب والطعان، قال معللا لكونه فيئا: فما أوجفتم أي أسرعتم، وقال حركتم واتبعتم في السير - انتهى، وذلك الإيجاف للغلبة ابن إسحاق: عليه وأعرق في النفي بالجار فقال: من خيل وأكد بإعادة النافي لظن من ظن أنه غنيمة لإحاطتهم بهم فقال: ولا ركاب أي إبل، غلب ذلك عليها من بين المركوبات، ولا قطعتم من أجله مسافة، فلم تحصل لكم كبير مشقة في حوز أموالهم لأن قريتهم كانت في حكم المدينة الشريفة ليس بينها [ ص: 421 ] وبين ما يلي منها مسافة بل هي ملاصقة لإحدى قرى الأنصار التي المدينة اسم لها كلها، وهي قرية بني عمرو بن عوف في قباء بينهما وبين القرية [التي] كان رسول الله نازلا بها نحو ميلين، فمشى الكل مشيا ولم يركب إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقاتلوا بها قتالا بعد، فلذلك جعلها الله فيئا ولم يجعلها غنيمة، فهي تقسم لا قسمة الغنيمة، فخمسها لأهل خمس الغنيمة وهم الأصناف الخمسة المذكورون في الآية التي بعدها، وما فضل فهو الأربعة الأخماس له صلى الله عليه وسلم مضمومة إلى ما حازه من خمس الخمس. قسمة الفيء،
ولما كان معنى هذا: فما كان التسليط بكم، استدرك بقوله: ولكن الله أي الذي له العز كله فلا كفؤ له يسلط رسله أي له هذه السنة في كل زمن على من يشاء بجعل ما آتاهم سبحانه من الهيبة رعبا في قلوب أعدائه، فهو الذي سلط رسوله صلى الله عليه وسلم على هؤلاء بأن ألقى في روعه الشريف أن يذهب إليهم فيسألهم الإعانة في دية العامريين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري رضي الله عنه خطأ، فلما جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جانب بيت من بيوتهم، وكانوا موادعين له صلى الله عليه وسلم بعد أن رحبوا به ووعدوه الإعانة وأمروا أحدهم أن يرمي عليه من [ ص: 422 ] فوق السطح صخرة لتقتله، فأعلمه [الله] بهذا فذهب وترك أصحابه هناك حتى لحقوا به، وهذا بعد ما كان نقضوا عهدهم خفية مكرا منهم حيي فعل من قدومه مكة وندمه لقريش إلى حرب النبي صلى الله عليه وسلم ومعاقدته لهم على أن يكون معهم عليه عليه الصلاة والسلام، وإعلام الله بذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل إليهم بعد ما أصبح أنكم [قد] خنتم الله ورسوله، فأردتم أن تفعلوا كذا، وأن الأرض لله ورسوله، فاخرجوا منها وقد أجلتكم عشرا، فمكثوا على ذلك أياما يتجهزون ودس إليهم ابن أبي ومن معه من المنافقين أنهم معهم في الشدة والرخاء لا يسلمونهم، وقال ابن أبي: معي ألفان من قومي وغيرهم من العرب يدخلون حصنكم فيموتون من عند آخرهم، وتمدكم قريظة وحلفاؤكم من غطفان فطمع حيي بن أخطب في ذلك فأرسل: إنا لا نخرج من ديارنا فاصنع ما بدا لك، فقصدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في المؤمنين يحمل رايته رضي الله عنه فصلى العصر بفنائهم بعد أن استعمل على علي بن أبي طالب المدينة رضي الله عنه وأقام عليهم ست ليال وهم متحصنون، فقطع من نخلهم [وحرق] فنادوه أن قد كنت تنهى عن الفساد وتعيبه على من صنعه فما بالك تقطع النخل، وتربصوا نصر ابن [أم] مكتوم ابن أبي ومن معه على [ ص: 423 ] ما قالوا فلم يفوا لهم، فألقى الله الرعب في قلوبهم فأرسلوا بالإجابة، فقال: لا إلا أن يكون [لي] سلاحكم وما لم تقدروا على حمله على إبلكم من أموالكم، فتوقفوا ثم أجابوا فحملوا من أموالهم ما استقلت به الإبل إلا الحلقة، وذهبوا على ستمائة بعير، وأظهروا الحلي والحلل وأبدى نساؤهم زينتهن فلحق بعضهم بخيبر وبعضهم بالشام وخلوا الأموال والحلقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يسلم منهم إلا رجلان يامين بن عمرو وأبو سعد بن وهب، أسلما على أموالهما فأحرزاها فجعل الله أموال من لم يسلم منهم فيئا لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة به يضعها حيث يشاء كما روي ذلك في الصحيح عن رضي الله عنه في قصة مخاصمة عمر علي رضي الله عنهما، وفيه أنه من خصائصه صلى الله عليه وسلم فإنه قال: والعباس وما أفاء الله على رسوله منهم إلى قوله تعالى: قدير فكانت خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم والله ما احتازها دونكم ولا استأثر بها عليكم قد أعطاكموها وبثها فيكم حتى بقي منها هذا المال - يعني الذي وقع خصامهما فيه، فكان ينفق رسول الله [ ص: 424 ] صلى الله عليه وسلم على أهله نفقة سنتهم من هذا المال ثم يأخذ ما بقي فيجعله مجعل ما لله، وفي الصحيح أيضا عن إن الله قد خص رسوله صلى الله عليه وسلم في هذا الفيء بشيء لم يعطه أحدا غيره، ثم قرأ مالك بن أوس بن الحدثان عن رضي الله عنه قال: عمر بني النضير مما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم ما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة ينفق [على أهله] منها نفقة سنة ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عدة في سبيل الله - انتهى، وقد قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم أموالهم بعد ما تركه لنفسه بين المهاجرين، لم يعط الأنصار منه شيئا إلا ثلاثة نفر كانت بهم حاجة شديدة: كانت أموال أبا دجانة سماك بن خرشة وسهل بن حنيف والحارث بن الصمة رضي الله عنهم، [وكان لسيف ابن أبي الحقيق عندهم ذكر فنفله رضي الله عنه[ وقال سعد بن معاذ الأصبهاني: إن أربعة أخماسها وهي عشرون سهما لرسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل بها ما يشاء ويحكم فيها ما أراد، والخمس الباقي على ما يقسم عليه خمس الغنيمة - يعني على رسول الله صلى الله عليه وسلم وذوي القربى ومن بعدهم، هكذا كان عمله صلى الله عليه وسلم [في صفاياه، [ ص: 425 ] فلما توفي كانت إلى إمام المسلمين وكذا جميع ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم] لأنه قال: الفيء كان يقسم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على خمسة وعشرين سهما . فولي ذلك لا نورث، ما تركناه صدقة رضي الله عنه ثم أبو بكر رضي الله عنه، فكانا يفعلان [فيها] ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم: وقال عمر الأصبهاني رضي الله عنه أيضا عن مالك بن أوس بن الحدثان رضي الله عنه: قرأ رضي الله عنه عمر بن الخطاب إنما الصدقات للفقراء حتى بلغ عليم حكيم ثم قال: هذه لهؤلاء ثم قرأ واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه
ثم قال هذه لهؤلاء، ثم قرأ ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى حتى بلغ للفقراء المهاجرين والذين تبوءوا الدار والإيمان والذين جاءوا من بعدهم ثم قال: استوعبت هذه المسلمين عامة فليس أحد إلا له فيها حق، ثم قال: لئن عشت ليأتين الراعي نصيبه منه لم يعرق جبينه فيه - انتهى.
وقال ابن عطية: ما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم لبني النضير ومن فدك فهو خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، وليس على ومذهب حكم الغنيمة التي يوجف عليها ويقاتل فيها، رضي الله عنه أن هذه الأموال التي هي فيء كبقية الفيء يقسم على [خمسة] أسهم: خمس منها للأصناف المذكورة أولها النبي صلى الله عليه وسلم وأربعة أخماسها له صلى الله عليه وسلم وحده، وأجاب الشافعي عن قول الشافعي رضي الله عنه، [ ص: 426 ] فكانت هذه لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة بأنه عام أريد به الخاص، ومعناه، فكان ما بقي منها في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إعطاء الخمس لأربابه خاصا به صلى الله عليه وسلم، لا يشك أحد في خصوصيته به، ثم إنه مع ذلك ما احتازه دونهم بل كان يفعل ما ذكر في الحديث من الإيثار، قال عمر رضي الله عنه: لأنا لا نشك أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الأصناف المذكورين في الآية منها حقهم وقد عهدنا أن حق هؤلاء الأصناف من مال المشركين الخمس كما هو صريح في سورة الأنفال، واستفيد من قول الشافعي رضي الله عنه "إنها كانت للنبي صلى الله عليه وسلم" أنه كان له ما كان يشترك فيه المسلمون [من الخمس من الغنيمة التي حصلت بما حصل للكفار من الرعب منهم، والذي كان يشترك فيه المسلمون] بعد الخمس هو أربعة الأخماس والنبي صلى الله عليه وسلم قام مقام المسلمين فيه إذ هم لم يوجفوا عليه بخيل ولا ركاب. وإنما حصل ذلك بالرعب الذي ألقاه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في قلوب المشركين. فكانت الأربعة الأخماس تختص ممن كان السبب في حصول الجميع [كما في الغنيمة، فعلى هذا الفيء الغنيمة لا يختلفان في أن الأربعة الأخماس تختص لمن كان السبب [ ص: 427 ] في حصول الجميع] وأن خمس المالين يكون للأصناف المذكورة، والذي كان له صلى الله عليه وسلم من الفيء من الأربعة الأخماس يكون بعد موته صلى الله عليه وسلم للمقاتلة لأنه حصل بالرعب الحاصل للكفار منهم كأربعة أخماس الغنيمة التي حصلت بقتالهم. عمر
ولما كانت قدرته سبحانه عامة بالتسليط وغيره، أظهر ولم يضمر فقال: والله أي الملك الذي له الكمال كله على كل شيء أي [أي شيء] يصح أن تتعلق المشيئة به وهو كل ممكن من التسليط وغيره قدير أي بالغ القدرة إلى أقصى الغايات، والآية تدل على أن إيجاف الخيل والركاب وقصد العدو إلى الأماكن الشاسعة له وقع كبير في النفوس ورعب عظيم.