[ ص: 510 ] ولما كان نزول هذه الآيات الماضية في الفتح الأعظم حين قصد النبي صلى الله عليه وسلم سنة ثمان المسير بجنود الله إلى مكة المشرفة - شرفها الله تعالى - لدخولها عليهم بالسيف حين نقضوا بقتالهم لخزاعة الذين كانوا قد تحيزوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فكانوا في عقده وعهده في صلح الحديبية الذي كان سنة ست على وضع الحرب بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم ومن دخل في عقده، وكان من ذلك الصلح أن من جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قريش ومن دخل في صلحهم رده إليهم وإن كان مسلما، ومن جاءهم من كان مع النبي صلى الله عليه وسلم لم يردوه إليه بحيث قام من ذلك وقعد كثير من الصحابة رضي الله عنهم من أعظمهم رضي الله عنه حتى سكنه عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه بما وقر في صدره من الحكم، ورد إليهم صلى الله عليه وسلم الصديق أبا بصير رضي الله عنه، وكان رده إليهم بسبب التصديق لقوله صلى الله عليه وسلم للوفاء بالعهد وقصته في ذلك كله مشهورة، وكانت "من" من صيغ العموم، وكانت دلالة العام قطعية في الحكم على الأفراد ظنية - كما قال "أما من جاءنا منهم فرددناه إليهم فسيجعل الله له فرجا ومخرجا" رضي الله تعالى عنه - في الدلالة على الجزئي من تلك الأفراد بخصوصه حيث لا قرينة [ ص: 511 ] لأن تلك الصيغ ترد تارة على عمومها وتارة يراد بها بعض الأفراد فتكون من العام الذي أريد به الخصوص، وتارة يقع فيها التخصيص، فتكون من العام الذي أريد به الخصوص فطرقها الاحتمال فاحتاج ما دلت عليه من الظاهر إلى قرينة، وكان الشافعي إما عريا عن القرينة أو أن القرينة القتال الذي وقع الصلح عليه بسببه صارفة عنه، وكذا قرينة التعبير عنهن بـ "ما" دون "من" في كثير من الكتاب العزيز دخول النساء تحت لفظ "من" في صلح الحديبية
فانكحوا ما طاب لكم من النساء أو ما ملكت أيمانكم ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم وأحل لكم ما وراء ذلكم فما استمتعتم به منهن فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم وكان قد ختم سبحانه هذه الآيات التي أدب بها في غزوة الفتح بما أبان به ما لا يخرج عن الصلح في عمرة الحديبية مما هو أقرب إلى الخير من البر والعدل، فكانت المصاهرة والمناكحة من أعظم التولي، وصل بذلك ما لا يخرج عنه ولا يحل بالعهد في أن من جاء من الكفار إلى النبي صلى الله عليه وسلم رده إليهم وإن كان مسلما، فقال مخاطبا لأدنى أسنان أهل الإيمان الذين [ ص: 512 ] يحتاجون إلى التفهيم، وأما من هو أعلى منهم فهو عالم بذلك مؤتمر به بما آتاه الله من الفهم وأنار به قلبه الشريف من فنون العلم ليكفوا النبي صلى الله عليه وسلم مقدمات البيعة منه لهن: ونهى عن تولي الكفار، يا أيها الذين آمنوا أي أقروا بالإيمان - وهو إيقاع الأمان من التكذيب - لمن يخبرهم ما ينبغي التصديق به بسبب تصديقهم بالله سبحانه وتعالى.
ولما كان في علمه سبحانه وتعالى أنه يأتيهم نساء يهربن بدينهن إلى الله، بشرهم بذلك بالتعبير بأداة التحقيق فقال: إذا أي صدقوا ما ادعيتموه من الإيمان بأنه في أي زمان جاءكم ولما كان لا يهجر داره وعشيرته لا سيما إن كانوا أقارب بسبب كفرهم إلا من رسخ في الإيمان ذكرا كان أو أنثى قال: المؤمنات أي النساء اللاتي صار وصف الإيمان لهن صفة راسخة بدلالة الهجرة عليه: مهاجرات للكفار ولأرضهم فامتحنوهن أي اختبروهن تأكيدا لما دلت عليه الهجرة من الإيمان بالتحليف بأنهن ما خرجن لحدث أحدثته ولا بغضا في زوج ولا رغبة في عشير ولا خرجن إلا حبا لله ورسوله ورغبة في دين الإسلام، قال الإمام شهاب الدين بن النقيب في الهداية من مختصره للكفاية لفقيه المذهب نجم الدين أحمد بن الرفعة في شرح التنبيه: [ ص: 513 ] واختلف قول رحمه الله تعالى: الشافعي ففي قول: لم يشترطه بل أطلق رد من جاءه فتوهموا تناول النساء، وكان النبي صلى الله عليه وسلم عالما بعدم دخولهن، فأطلق ذلك هل كان النبي صلى الله عليه وسلم شرط لقريش في الصلح رد النساء يعني ومن شرعه أن الحرب خدعة، وفي قول: شملهن الشرط، لكن هل شرطه صريحا أم دخلن في الإطلاق فيه وجهان أظهرهما الثاني، وهل كان شرطهن جائزا فيه وجهان: أحدهما نعم ثم نسخ، وهل ناسخه الآية المذكورة أم منع النبي صلى الله عليه وسلم من الرد فيه وجهان مبنيان على أنه حذيفة وفيه قولان هل يجوز نسخ السنة بالقرآن رحمه الله تعالى، ومختاره منهما المنع وهو الجديد، وكذا لا يجوز عنده وعند أصحابه نسخ الكتاب بالسنة وإن كانت متواترة - انتهى. للشافعي
ومعناه أنه لم يقع فإن وقع نسخها بالقرآن كان معه سنة، وإن وقع نسخه بالسنة كان معها قرآن، وهو معنى قول ابن السبكي في جمع الجوامع: قال رضي الله عنه: وحيث وقع بالسنة فمعها قرآن أو بالقرآن فمعه سنة عاضدة تبين توافق الكتاب والسنة. الشافعي
ولما كان الاختبار ربما دل على إيمانهن لا يعلم إلا به، نفى ذلك بقوله مستأنفا في جواب من يقول: أليس الله بعالم بذلك، ومفيدا أن علمكم [ ص: 514 ] الذي تصلون إليه بالامتحان ليس بعلم، وإنما سماه به إيذانا بأن الظن الغالب في حقكم بالاجتهاد والقياس قائم مقام العلم يخرج من عنده ولا تقف ما ليس لك به علم الله المحيط بكل شيء قدرة وعلما أعلم أي منكم ومنهن بأنفسهن بإيمانهن هل هو كائن أو لا على وجه الرسوخ أو لا، فإنه محيط بما غاب كإحاطته بما شهد، وإنما وكل الأمر إليكم في ذلك سترا للناس ولئلا تكون شهادته لأحد بالإيمان والكفران موصلة إلى عين اليقين فيخرج عن مبنى هذه الدار، قال القشيري: وفي الجملة الامتحان طريق إلى المعرفة، وجواهر النفس تتبين بالتجربة، ومن أقدم على شيء من غير تجربة يجني كأس الندم، قال: فإن علمتموهن أي العلم المتمكن لكم وهو الظن المؤكد بالأمارات الظاهرة بالحلف وغيره مؤمنات أي مخلصات في الهجرة لأجل الإيمان، والتعبير بذلك لإيذان بمزيد الاحتياط.
ولما ذكر هذا الامتحان بين أنه علة لحمايتهن والدفع عنهن فأتبعه مسببه فقال: فلا ترجعوهن أي بوجه من الوجوه إلى الكفار وإن كانوا أزواجا، ومن الدليل على أن هذا ظاهر في المراد وأن القرائن موضحة له أنه صلى الله عليه وسلم لما أبى أن يرد إليهم من جاءه من النساء لم يعب أحد من الكفار ذلك، ولا نسب [ ص: 515 ] إلى عهده صلى الله عليه وسلم - وحاشاه - خللا، ولولا أن ذلك كذلك لملؤوا الأرض تشغيبا كما فعلوا في سرية عبد الله بن جحش رضي الله عنه إلى نخلة التي نزل بسببها
يسألونك عن الشهر الحرام الآيات على أن الأخبار الصحيحة وغيرها ناطقة بأن هذه الآية نزلت في الحديبية قبل أن ينفصل الأمر غاية الانفصال ويستقر، روى في المغازي من صحيحه البخاري من طريقه وهذا لفظه عن والبغوي المروان عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: والمسور بن مخرمة كاتب فكان ما اشترط على النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يأتيك أحد منا وإن كان على دينك إلا رددته إلينا، فكاتبه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، فرد يومئذ سهيل بن عمرو أبا جندل إلى أبيه ولم يأته أحد من الرجال إلا رده في تلك المدة وإن كان مسلما، وجاءت المؤمنات مهاجرات، وكانت سهيل بن عمرو، ممن خرج إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو عاتق فجاء أهلها إلى أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط المدينة يسألون النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجعها إليهم فلم يرجعها إليهم كما أنزل الله فيهن إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن وقال قال البغوي: رضي الله عنهما: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم معتمرا [ ص: 516 ] حتى إذا كان ابن عباس بالحديبية صالحه مشركو مكة على أن من أتاه من أهل مكة رده إليهم فجاءت سبيعة بنت الحارث مسلمة بعد الفراغ من الكتاب، فأقبل زوجها، وكان كافرا، فقال: يا محمد! اردد علي امرأتي فإنك قد شرطت أن ترد علينا من أتاك منا، وهذه طينة الكتاب لم تجف، فأنزل الله تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن وقال رضي الله عنهما: امتحانها أن تستحلف أنها ما هاجرت لبغض زوج ولا عشقا لرجل من المسلمين ولا رغبة عن أرض ولا لحدث أحدثته ولا التماس الدنيا وما خرجت إلا رغبة في الإسلام وحبا لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فاستحلفها رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فحلفت فلم يردها وأعطى زوجها ما أنفق عليها، فزوجها ابن عباس رضي الله عنه، وكان صلى الله عليه وسلم يرد من جاءه من الرجال ويحبس من جاءه من النساء بعد الامتحان، ويعطي أزواجهن مهورهن، ودعوى النسخ ليست بشيء إلا تؤول بأنه لما كان من العام الذي أريد به الخصوص أن بعض ما تناوله ظاهر اللفظ من الحكم مرفوع، وذلك بأن الله لا يأمر بإخلاف الوعد فكيف بنقض العهد. ولما نهى عن رد المهاجرات [ ص: 517 ] إلى المشركين وعبر بالكفار تعميما، علل ذلك بقوله مقدما حكمهن تشريفا لهن لهجرتهن: عمر لا هن أي الأزواج حل أي موضع حل ثابت لهم أي للكفار باستمتاع ولا غيره. ولما كان نفي الحل الثابت غير مانع من تجدد حل الرجال لهن ولو على تقدير من التقادير وفرض من الفروض، قال معيدا لذلك ومؤكدا لقطع العلاقة من كل جانب: ولا هم أي رجال الكفار يحلون أي يتجدد في وقت من الأوقات أن يحلوا لهن أي للمؤمنات حتى لو تصور أن يكون رجالهن نساء وهن ذكورا ما حلوا لهن بخلاف أهل الكتاب، كذا تنفك الملازمة في مسألة المظاهرة والإيلاء فيحل للمرأة أن تستمتع به إذا كان نائما مثلا، وأما هو فيحرم عليه ذلك قبل التكفير، وقال البيضاوي: الأولى لحصول الفرقة، والثانية للمنع من الاستئناف - انتهى، فنفت هذه الجملة الفعلية من وجه تجدد الحل للنساء فأفهمت الجملتان عدم الحرج فيما كان قبل ذلك تطييبا لقلوب المؤمنات.
ولما نهى عن الرد وعلله، أمر بما قدم من الإقساط إليهم [ ص: 518 ] فقال: وآتوهم أي الأزواج ما أنفقوا أي عليهن من المهور فإن المهر في نظير أصل العشرة ودوامها وقد فوتتها المهاجرة فلا يجمع عليه خسران الزوجية والمالية، وأما الكسوة والنفقة فإنها لما يتجدد من الزمان.
ولما جزم بتأييد منعهن عن الكفار، أباحهن للمسلمين فقال على وجه الرفق واللطف: ولا جناح أي ميل وحرج عليكم أيها المشرفون بالخطاب أن تنكحوهن أي تجددوا زواجكم بهن بعد الاستبراء وإن كان أزواجهن من الكفار لم يطلقوهن لزوال العلق منهم عنهن ولأن الإسلام فرق بينهم فإنه لن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا. ولما كان قد أمر برد مهور الكفار، فكان ربما ظن أنه مغن عن تجديد مهر لهن إذا نكحهن المسلم نفى ذلك بقوله: إذا آتيتموهن أي لأجل النكاح أجورهن ولما قطع ما بين الكفار والمسلمات مع الإعراض عن الكفار لعصيانهم قطع ما بين المؤمنين والكافرات مع الإقبال عليهم لطاعتهم رفعا لشأنهم فقال: ولا ولما كان إمساك المرأة مع عداوتها لمخالفتها في الدين دليلا على غاية الرغبة فيها، دل على ذلك إشارة إلى التوبيخ بالتضعيف في قراءة البصريين [ ص: 519 ] فقال: تمسكوا أي بعدم التصريح في الطلاق بعصم الكوافر جمع عصمة وهي ما يديم علقة النكاح واسألوا أي أيها المؤمنون الذين ذهبت أزواجهم إلى الكفار ما أنفقتم أي من مهور نسائكم اللاتي اعتصمن عنكم بهم أو فررن إليهم. ولما أمر برد مهور المؤمنين إلى الكفار وأذن للمؤمنين في المطالبة بمهور أزواجهم، أذن للكفار في مثل ذلك إيقاعا للقسط بين عباده مسلمهم وكافرهم معبرا بالأمر مع الغيبة إعراضا عنهم إعلاما بشدة كراهته سبحانه للظلم وأنه يستوي فيه الكافر مع عداوته بالمؤمن مع ولايته: وليسألوا أي الكفار ما أنفقوا أي من مهور أزواجهم اللاتي أسلمن واعتصمن بكم عنهم، وهل هذا الحكم باق، قال قوم: نعم، وقال عطاء ومجاهد نسخ فلا يعطي الكفار شيئا ولو شرطنا الإعطاء. وقتادة:
ولما كان هذا حكما عدلا لا يفعله مع عدوه ووليه إلا حكيم، قال مشيرا إلى مدحه ترغيبا فيه بميم الجمع إلى العموم: ذلكم أي الحكم الذي ذكر في هذه الآيات البعيدة بعلو الرتبة عن كل سفه حكم الله أي الملك الذي له صفات الكمال، فلا ينبغي لشائبة نقص أن يلحقه. [ ص: 520 ] ولما كان هذا مما يفرح به ويغتم عند تقدير فواته، قال مستأنفا مبشرا بإدامة تجديد أمثاله لهم: يحكم أي الله أو حكمه على سبيل المبالغة، ودل على استغراق الحكم لجميع ما يعرض بين العباد وأنه سبحانه لم يهمل شيئا منه بإعراء الجار من قوله: بينكم أي في هذا الوقت وفي غيره على هذا المنهاج البديع، وذلك لأجل الهدنة التي وقعت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبينهم، وأما قبل الحديبية فكان النبي صلى الله عليه وسلم يمسك النساء ولا يرد الصداق.
ولما كان التقدير: فالله حكم عدل، قال: والله أي الذي له الإحاطة التامة عليم أي بالغ العلم لا يخفى عليه شيء حكيم أي فهو لتمام علمه يحكم كل أموره غاية الإحكام فلا يستطيع أحد نقض شيء منها.