ولما دل على درجة الشهادة؛ بعدما ذكر من ثواب من قبل موعظته؛ [ ص: 323 ] ولو في قتل نفسه؛ وذم من أبى ذلك؛ بعدما حذر من الأعداء من أهل الكتاب؛ والمشركين؛ والمنافقين المخادعين؛ فتوفرت دواعي الراغبين في المكارم على ارتقابها; التفت إلى المؤمنين؛ ملذذا لهم بحسن خطابه؛ نادبا إلى الجهاد؛ مع الإرشاد إلى الاستعداد له؛ مما يروع الأضداد؛ فقال - سبحانه وتعالى - منبها بأداة البعد؛ وصيغة المضي؛ إلى أن الراسخ لا ينبغي له أن يحتاج إلى تنبيه على مثل هذا -: يا أيها الذين آمنوا ؛ أي: أقروا بالإيمان؛ ولما كان - سبحانه وتعالى - قد خلق للإنسان عقلا يحمله على التيقظ؛ والتحرز من الخوف؛ فكان كالآلة له؛ وكان - لما عنده من السهو؛ والنسيان؛ في غالب الأوقات - مهملا له؛ فكان كأنه قد ترك آلة كانت منه; قال - سبحانه وتعالى -: خذوا حذركم ؛ أي: من الأعداء؛ الذين ذكرتهم لكم؛ وحذرتكم منهم؛ المشاققين منهم والمنافقين؛ فانفروا ؛ أي: اخرجوا؛ تصديقا لما ادعيتم؛ إلى جهادهم؛ مسرعين؛ ثبات ؛ أي: جماعات متفرقين؛ سرية في إثر سرية؛ لا تملوا ذلك أصلا؛ أو انفروا جميعا ؛ أي: عسكرا واحدا؛ ولا تخاذلوا تهلكوا؛ فكأنه قال: خففت [ ص: 324 ] عنكم قتل الأنفس؛ على الصفة التي كتبتها على من قبلكم؛ ولم آمركم إلا بما تألفونه؛ وتتمادحون به فيما بينكم؛ وتذمون تاركه؛ من موارد القتال؛ الذي هو مناهج الأبطال؛ ومشارع فحول الرجال؛ وجعلت للباقي منكم المحبوبين من الظفر وحل المغنم؛ وللماضي أحب المحبوب؛ وهو الدرجة التي ما بعدها إلا درجة النبوة؛ مع أنه لم ينقص من أجله شيء؛ ولو لم يقتل في ذلك السبيل المرضي لقتل في غيره؛ في ذلك الوقت.