ولما عرفهم هذه المفاوز الأخروية والمفاخر الدنيوية؛ وختم بما [ ص: 330 ] ينهض الجبان؛ ويقوي الجنان؛ ورغبهم بما شوق إليه من نعيم الجنان; عجب من حال من توانى بعد ذلك واستكان؛ فقال (تعالى) - مقبلا بالخطاب على أعبد خلقه؛ وأطوعهم لأمره -: ألم تر ؛ وأشار إلى أنهم بمحل بعد عن حضرته؛ تنهيضا لهم بقوله: إلى الذين قيل لهم ؛ أي: جوابا لقولهم: إنا نريد أن نبسط أيدينا إلى الكفار بالقتال؛ لأن امتحاننا بهم قد طال؛ كفوا أيديكم ؛ أي: ولا تبسطوها إليهم؛ فإنا لم نأمر بهذا؛ وأقيموا الصلاة ؛ أي: صلة بالخالق؛ واستنصارا على المشاقق؛ وآتوا الزكاة ؛ منماة للمال؛ وطهرة للأخلاق؛ وصلة للخلائق؛ فلما كتب عليهم القتال ؛ أي: الذي طلبوه؛ وهم يؤمرون بالصفح؛ كتابة لا تنفك إلى آخر الدهر؛ إذا فريق منهم ؛ أي: ناس تلزم عن فعلهم الفرقة؛ فأحبوا هذا الكتب بأنهم؛ يخشون الناس ؛ أي: الذين هم مثلهم؛ أن يضروهم؛ والحال أنه يقبح عليهم أن يكونوا أجرأ منهم؛ وهم ناس مثلهم؛ كخشية الله ؛ أي: مثلما يخشون الله؛ الذي هو القادر؛ لا غيره. [ ص: 331 ] ولما كان كفهم عن القتال شديدا؛ يوجب لمن يراه منهم أن يظن بهم من الجبن ما يتردد به في الموازنة بين خوفهم من الناس؛ وخوفهم من الله؛ عبر بأداة الشك؛ فقال: أو أشد خشية ؛ أي: أو كانت خشيتهم لهم عند الناظر لهم أشد من خشيتهم من الله؛ فقد أفاد هذا أن خوفهم من الناس ليس بأقل من خوفهم من الله جزما؛ بل إما مثله أو أشد منه; وقد يكون الإبهام لتفاوت بالنسبة إلى وقتين؛ فيكون خوفهم منه في وقت متساويا؛ وفي آخر أزيد؛ فهو متردد بين هذين الحالين; ويجوز أن يكون ذلك كناية عن كراهتهم القتال في ذلك الوقت؛ وتمنيهم لتأخيره إلى وقت ما.
وأيد ما تقدم من الظن بقوله ما هو كالتعليل للكراهة: وقالوا ؛ جزعا من الموت؛ أو المتاعب - إن كانوا مؤمنين -؛ أو اعتراضا - إن كانوا منافقين -؛ على تقدير صحة ما يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - ربنا ؛ أي: أيها المحسن إلينا؛ القريب منا؛ لم كتبت علينا القتال ؛ أي: ونحن الضعفاء؛ لولا ؛ أي: هلا؛ أخرتنا ؛ أي: عن الأمر بالقتال؛ إلى أجل قريب ؛ أي: لنأخذ راحة مما كنا فيه من الجهد من الكفار بمكة.
وسبب نزولها أن عبد الرحمن بن عوف؛ والمقداد بن الأسود الكندي؛ وقدامة بن مظعون؛ وجماعة - رضي الله عنهم - كانوا يلقون من المشركين وسعد بن [ ص: 332 ] أبي وقاص؛ بمكة أذى كثيرا قبل أن يهاجروا؛ ويقولون: يا رسول الله؛ ائذن لنا في قتالهم؛ فإنهم قد آذونا؛ فيقول لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كفوا أيديكم؛ فإني لم أومر بقتالهم؛ وأقيموا الصلاة؛ وآتوا الزكاة"؛ فلما هاجروا إلى المدينة؛ وأمرهم الله - سبحانه وتعالى - بقتال المشركين؛ شق ذلك على بعضهم؛ حكاه عن البغوي وحكاه الكلبي؛ عنه؛ بنحوه؛ وروى بسنده عن الواحدي - رضي الله (تعالى) عنهما - ابن عباس وأصحابه - رضي الله (تعالى) عنهم - أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عبد الرحمن بن عوف؛ بمكة؛ فقالوا: يا رسول الله؛ كنا في عز ونحن مشركون؛ فلما آمنا صرنا أذلة؛ فقال: "إني أمرت بالعفو؛ فلا تقاتلوا القوم"؛ فلما حوله الله (تعالى) إلى المدينة؛ أمره بالقتال؛ فكفوا؛ فأنزل الله - عز وجل -: ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم ؛ الآية؛ وهذا يفهم أن نسبة القول إليهم إنما هي حالهم في التأخر عن المبادرة إلى القتال؛ حال من يقول ذلك؛ فالمراد من الآية إلهابهم إلى القتال؛ وتهييجهم؛ ليس غير. أن
ولما عجب - عليه الصلاة والسلام - منهم؛ إنكارا عليهم؛ كان كأنه قال: "فما أقول لهم؟"؛ أمره بوعظهم؛ وتضليل عقولهم؛ وتفييل آرائهم؛ [ ص: 333 ] بقوله: قل متاع الدنيا قليل ؛ أي: ولو فرض أنه مد في آجالكم إلى أن تملوا الحياة؛ فإن كل منقطع قليل؛ مع أن نعيمها غير محقق الحصول؛ وإن حصل كان منغصا بالكدورات؛ والآخرة خير لمن اتقى ؛ أي: لأنها لا يفنى نعيمها؛ مع أنه محقق ولا كدر فيه؛ وهي شر من الدنيا لمن لم يتق؛ لأن عذابها طويل؛ لا يزول؛ ولا تظلمون فتيلا ؛ أي: لا في دنياكم؛ بأن تنقص آجالكم بقتالكم؛ ولا أرزاقكم باشتغالكم؛ ولا في آخرتكم؛ بأن يضيع شيء من ثوابكم على ما تنالونه من المشقة؛ لأنه - سبحانه وتعالى - حكيم؛ لا يضع شيئا في غير موضعه؛ ولا يفعل شيئا إلا على قانون الحكمة؛ فما لكم تقولون قول المتهم: لم فعلت؟ أتخشون الظلم في إيجاب ما لم يجب عليكم؛ وفي نقص الرزق والعمر؟ أتخشون الظلم في إيجاب ما لم يجب عليكم؛ وفي نقص الرزق والعمر؟ تعالى الله عن ذلك؛ بل هو - مع أن سنته العدل؛ وله أن يفعل ما شاء؛ لا يسأل عما يفعل - يحسن ويعطي من تقبل إحسانه أتم الفضل.