وإذ قد تحرر بما مضى أن المنافقين كفرة؛ لا لبس في أمرهم؛ وكشف - سبحانه وتعالى - الحكم في باطن أمرهم بالشفاعة؛ وظاهره بالتحية؛ وحذر من خالف ذلك بما أوجبته على نفسه حكمته من الجمع ليوم الفصل؛ للحكم بالعدل؛ وختم بأن الخبر عنهم؛ وعن جميع ذلك صدق; كان ذلك سببا لجزم القول بشقاوتهم؛ والإعراض [ ص: 354 ] عنهم؛ والبعد عن الشفاعة فيهم؛ والإجماع على ذلك من كل مؤمن؛ وإن كان مبنى السورة على التواصل؛ لأن ذلك إنما هو حيث لا يؤدي إلى مقاطعة أمر الله؛ فقال (تعالى) - مبكتا لمن توقف عن الجزم بإبعادهم -: فما لكم ؛ أيها المؤمنون؛ في المنافقين ؛ أي: أي شيء لكم من أمور الدنيا؛ أو الآخرة؛ في افتراقكم فيهم فئتين ؛ بعضكم يشتد عليهم؛ وبعضكم يرفق بهم؟
ولما كان هذا ظاهرا في بروز الأمر المطاع بين القول بكفرهم؛ وضحه بقوله; والله ؛ أي: والحال أن الملك الذي لا أمر لأحد معه؛ أركسهم ؛ أي: ردهم منكوسين؛ مقلوبين؛ بما كسبوا ؛ أي: بعد إقرارهم بالإيمان؛ من مثل هذه العظائم؛ فاحذروا ذلك؛ ولا تختلفوا في أمرهم بعد هذا البيان; وفي غزوة "أحد"؛ والتفسير من عن البخاري؛ - رضي الله (تعالى) عنه - قال: زيد بن ثابت "أحد"؛ رجع ناس ممن خرج معه؛ وكان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فرقتين: فرقة تقول: نقاتلهم؛ وفرقة تقول: لا نقاتلهم؛ فنزلت: فما لكم في المنافقين ؛ الآية؛ وقال: إنها طيبة تنفي الذنوب؛ وفي رواية: كما تنفي النار خبث الفضة"؛ انتهى؛ فالمعنى حينئذ: "اتفقوا على أن تسيروا فيها بما ينزل عليكم في هذه الآيات"؛ [ ص: 355 ] ولما كان حال من يرفق بهم حال من يريد هدايتهم؛ أنكر - سبحانه وتعالى - ذلك عليهم صريحا؛ لبت الأمر في كفرهم؛ فقال: "لما خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أتريدون ؛ أي: أيها المؤمنون؛ أن تهدوا ؛ أي: توجدوا الهداية في قلب؛ من أضل الله ؛ أي: وهو الملك الأعظم؛ الذي لا يرد له أمر؛ وهو معنى قوله: ومن ؛ أي: والحال أنه من يضلل الله ؛ أي: بمجامع أسمائه؛ وصفاته؛ فلن تجد ؛ أي: أصلا؛ أيها المخاطب؛ كائنا من كان؛ له سبيلا ؛ أي: إلى ما أضله عنه أصلا؛ والمعنى: إن كان رفقكم بهم رجاء هدايتهم؛ فذلك أمر ليس إلا لله؛ وإنما عليكم أنتم الدعاء؛ فمن أجاب صار أهلا للمواصلة؛ ومن أبى صارت مقاطعته دينا؛ وقتله قربة؛ والإغلاظ عليه واجبا.