ولما ناسبت هذه الآية ما قبلها من آية القتل العمد؛ والتفتت إلى: وحرض المؤمنين ؛ وإلى آية التحية؛ فاشتد اعتناقها لهما؛ وعلم بها أن في الضرب في سبيل الله هذا الخطر؛ فكان ربما فتر عنه; بين فضله لمن كأنه قال: "فحينئذ نقعد عن الجهاد لنسلم"؛ بقوله: لا يستوي القاعدون ؛ أي: عن الجهاد؛ حال كونهم؛ من المؤمنين ؛ أي: الغريقين في الإيمان؛ ليفيد التصريح بتفضيل المؤمن المجاهد على المؤمن القاعد؛ لئلا يخصه أحد بالكافر الجاحد.
ولما كان من الناس من عذره - سبحانه وتعالى - برحمته؛ استثناهم؛ [ ص: 369 ] فقال - واصفا للقاعدين؛ أو مستثنيا منهم -: غير أولي الضرر ؛ أي: المانع؛ أو العائق عن الجهاد في سبيل الله؛ من عوج؛ أو مرض؛ أو عمى؛ ونحوه؛ وبهذا بان أن الكلام في المهاجرين; وفي في التفسير؛ البخاري؛ - رضي الله (تعالى) عنه -؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أملى عليه: "لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله" ؛ فجاءه زيد بن ثابت وهو يملها علي؛ فقال: يا رسول الله؛ والله لو أستطيع الجهاد لجاهدت - وكان أعمى -; فأنزل الله - عز وجل - على رسوله؛ وفخذه على فخذي؛ فثقلت علي؛ حتى خفت أن ترض فخذي؛ ثم سري عنه؛ فأنزل الله: ابن أم مكتوم؛ غير أولي الضرر وأخرجه في فضائل القرآن؛ عن عن - رضي الله (تعالى) عنه - قال: البراء لا يستوي القاعدون ؛ الآية؛ قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ادع لي زيدا؛ وليجئ باللوح؛ والدواة؛ والكتف"; ثم قال: "اكتب"؛ فذكره؛ وحديث لما نزلت: زيد أخرجه أيضا أبو داود؛ والترمذي وفي رواية والنسائي؛ قال: أبي داود: لا يستوي القاعدون ؛ إلى آخرها; فقام - وكان رجلا أعمى - لما سمع فضيلة المجاهدين؛ فقال: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فكيف ابن أم مكتوم فلما قضى كلامه غشيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السكينة؛ فوقعت فخذه على فخذي؛ ووجدت من ثقلها في المرة الثانية كما وجدت في المرة الأولى؛ فسري عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "اقرأ يا بمن لا يستطيع الجهاد من المؤمنين؟ زيد"؛ فقرأت: لا يستوي القاعدون من المؤمنين ؛ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: غير أولي الضرر ؛ الآية كلها؛ قال زيد: أنزلها الله وحدها؛ فألحقتها؛ والذي نفسي بيده لكأني أنظر إلى ملحقها عند صدع في كتف؛ ورواه كنت إلى جنب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فغشيته السكينة؛ فوقعت فخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على فخذي؛ فما وجدت شيئا أثقل من فخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ ثم سري عنه؛ فقال لي: "اكتب"؛ [ ص: 370 ] فكتبت في كتف: أبو بكر بن أبي شيبة؛ وفيه: وأبو يعلى الموصلي؛ إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا نزل عليه دام بصره؛ مفتوحة عيناه؛ وفرغ سمعه وقلبه؛ لما يأتيه من الله - عز وجل.
ولما ذكر القاعد أتبعه قسيمه؛ المجاهد؛ بقوله: والمجاهدون في سبيل الله ؛ أي: دين الملك الأعظم؛ الذي من سلكه وصل إلى رحمته؛ بأموالهم وأنفسهم ولما كان نفي المساواة سببا لترقب كل من الحزبين الأفضلية؛ لأن القاعد؛ وإن فاته الجهاد؛ فقد تخلف الغازي في أهله؛ إذ يحيي الدين بالاشتغال بالعلم؛ ونحوه; قال [ ص: 371 ] - مستأنفا -: فضل الله ؛ أي: الذي له صفات الكمال؛ المجاهدين ؛ ولما كان المال في أول الأمر ضيقا؛ قال - مقدما للمال -: بأموالهم وأنفسهم ؛ أي: جهادا كائنا بالفعل؛ على القاعدين ؛ أي: عن ذلك؛ وهم متمكنون منه؛ بكونهم في دار الهجرة؛ درجة ؛ أي: واحدة؛ كاملة؛ لأنهم لم يفوقوهم بغيرها؛ وفي في المغازي؛ عن البخاري؛ - رضي الله (تعالى) عنهما -: ابن عباس
"لا يستوي القاعدون من المؤمنين عن "بدر"؛ والخارجون إلى "بدر".
ولما شرك بين المجاهدين؛ والقاعدين؛ بقوله: وكلا ؛ أي: من الصنفين؛ وعد الله ؛ أي: المحيط بالجلال والإكرام؛ أجرا على إيمانهم؛ الحسنى ؛ بين أن القاعد المشارك إنما هو الذي به قوة الجهاد القريبة من الفعل؛ وهو التمكن من تنفيذ الأمر؛ بسبب هجرته لأرض الحرب؛ وكونه بين أهل الإيمان؛ وأما القاعد عن الهجرة مع التمكن فليس بمشارك في ذلك؛ بل هو ظالم لنفسه؛ فإنه ليس متمكنا من تنفيذ الأوامر؛ فلا هو مجاهد بالفعل؛ ولا بالقوة القريبة منه؛ فقال: وفضل الله ؛ أي: الملك الذي لا كفؤ له؛ فلا يجبر عليه؛ المجاهدين ؛ أي: بالفعل مطلقا؛ بالنفس؛ أو المال؛ على القاعدين ؛ أي: عن الأسباب الممكنة من الجهاد؛ ومن الهجرة؛ أجرا عظيما ؛