ولما وصف الجنة بأول ما يعتبر فيها وهو عدم المنغص، أتبعه ما يطلب بعده وهو تناول الملتذات، وكان الأكل قد فهم من ذكر لفظ الجنة، ذكر المشروب لذلك ولدلالته إذا كان جاريا على [ ص: 10 ] زيادة حسن الجنة وكثرة ما فيها من النباتات المقيتة والمفكهة من النجم والأشجار والري والأطيار، فقال لأنه ليس كل جنة مما نعرفه فيه ماء جار بنفسه: فيها أي الجنة. ولما كان الماء الجاري صالحا لأن يقسم إلى أماكن كثيرة، وحد قوله المراد به الجنس الشامل للكثير مقابلة لعين أهل النار في دار البوار: عين جارية أي عظيمة الجري جدا، فهي بحيث لا تنقطع أصلا لما لأرضها من الزكاء والكرم و[ما] لمائها من الغزارة وطيب العنصر، فهو صالح لأن يعم جميع نواحيها أقاصيها وأدانيها وإن عظم [اتساعها] وتناءت أقطارها وبقاعها، كما نراه يجري من ساق الشجرة الكبيرة جدا فيسقي جميع أغصانها وأوراقها وثمارها، ويزيد على ذلك بأن جريه من أسفل إلى فوق، يجدبه جادب الشوق ويسوقه أي سوق يقدره الخلاق العليم، والذي قدر على هذا كما هو مشاهد لنا لا نشك فيه قادر على أن يجعل هذه العين - الصالحة للجنس ولو كانت واحدة بالشخص - عامة لجميع مرافق الجنة [تجري] إلى خيامها ورياضها وبساتينها ومصانعها ومجالسها ويصعدها إلى أعالي غرفها وإن علت، مقسمة بحسب المصالح، موزعة على قدر المنافع، بغاية الإحكام بما كان لداخلها من الخضوع الذي يجري منهم الدموع ويقل الهجوع ويكثر الظمأ والجوع.