[ ص: 145 ] ولما حكم بهذا الرد على جميع النوع إشارة إلى كثرة المتصف به منهم، وكان الصالح قليلا جدا، جعله محط الاستثناء فقال: إلا الذين آمنوا أي بالله ورسله فكانوا [من] ذوي البصائر والمعارف، فغلبنا بلطفنا عقولهم بما دعت إليه وأعانت عليه الفطرة الأولى على شهواتهم، وحميناهم من أرذل العمر، فكانوا [كلما] زدناهم سنا زدنا أنوار عقولهم ونقصنا نار شهواتهم بما أضعفنا من إحكام طبائعهم وتعلقهم بهذا العالم، وأحكمنا من مدارك أنوار الحق وإشراقاته منهم، وأعظمنا من قوى أرواحهم.
ولما كان الإنسان قد يدعي الإيمان كاذبا قال: وعملوا أي تصديقا لدعواهم الإيمان الصالحات أي من محاسن الأعمال من الأقوال والأفعال ثابتة الأركان على أساس الإيمان، محكمة بما آتيناهم من العلم غاية الإحكام، متقنة غاية الإتقان، فإنا حفظناهم - وقليل ما هم - بما كملناهم به وشرفناهم على جميع الحيوانات وسائر من سواهم فلم نمكن منهم الشهوات ولا غيرها، وأقمناهم على ما اقتضاه منهاج العقل، فتبعوا الرسل بسبب إبقائنا لهم على الفطرة الأولى في أحسن تقويم، لم يدنس محياها بشهوة ولا حظ ولا هوى، فسهل انقيادهم، فأداهم ذلك إلى العدل [ ص: 146 ] والنصفة والإحسان، وجميع مكارم الأخلاق ومعالي الأمور، ولم يزيغوا عن [منهاج] الرسل في قول ولا عمل، فالآية [كما ترى] من الاحتباك: حذف أولا بما أفهمته الآية عمل السيئات، وثانيا الإبقاء على أصل الخلق في أحسن تقويم على الفطرة الأولى، ليكون نظمها في الأصل ثم رددناه أسفل سافلين بعمل السيئات فله على ذلك عذاب مهين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فإنا أبقيناهم على الفطرة الأولى في أحسن تقويم.
ولما كان السياق لمدح المؤمنين، حسن أن يعد أعمالهم التي تفضل عليهم بها سببا كما من عليهم به من الثواب فقال: فلهم أي فتسبب عن ذلك أن كان لهم في الدارين على ما وفقوا له مما يرضيه سبحانه وتعالى أجر أي عظيم جدا وهو مع ذلك غير ممنون أي مقطوع أو يمن عليهم به حتى في حالة المرض والهرم [لكونهم] سعوا في مرضاة الله سبحانه وتعالى وعزموا عزما صادقا أنهم لا ينقصون من أعمال البر ذرة ولو عاشوا مدى الدهر، وذلك الأجر جزاء لأعمالهم فضلا منه بالأصل والفرع حتى أنهم إذا عجزوا بالهرم كتب لهم أجر ما كانوا يعملون في حال الصحة، ولمن تابع هواه في السفول عذاب عظيم لأنه رد أسفل سافلين.