وإذ قال الله ؛ أي: بما له من صفات الجلال؛ والجمال؛ مشيرا إلى ما له من علو الرتبة بأداة النداء: يا عيسى ابن مريم ؛ وذلك تحقيقا لأنه عمل بمقتضى النعمة؛ وتبكيتا لمن ضل فيه من النصارى؛ وإنكارا عليهم؛ أأنت قلت للناس ؛ أي: الذين أرسلت إليهم من بني إسرائيل؛ وكأنه عبر بذلك لزيادة التوبيخ لهم؛ لكونهم اعتقدوا ذلك؛ وفيهم الكتاب؛ فكأنه لا ناس غيرهم؛ اتخذوني ؛ أي: كلفوا أنفسكم خلاف ما تعتقدونه بالفطرة الأولى في الله؛ بأن تأخذوني؛ وأمي إلهين [ ص: 364 ] ولما كانت عبادة غير الله - ولو كانت على سبيل الشرك - مبطلة لعبادة الله؛ لأنه - سبحانه - أغنى الأغنياء؛ ولا يرضى الشرك إلا فقير؛ قال: من دون الله ؛ أي: الملك الأعلى؛ الذي لا كفؤ له؛ فيكون المعنى: اتخذوا تألهنا سلما تتوصلون به إلى الله؛ ويجوز أن يكون المعنى على المغايرة؛ ولا دخل حينئذ للمشاركة.
ولما كان من المعلوم لنا؛ في غير موضع؛ أنه لم يقل ذلك؛ صرح به هنا؛ توبيخا لمن أطراه؛ وتأكيدا لما عندنا من العلم؛ وتبجيلا له - صلى الله عليه وسلم - بما يبدي من الجواب؛ وتفضيلا بالإعلام بأنه لم يحد عن طريق الصواب؛ بل بذل الجهد في الوفاء بالعهد؛ وتقريعا لمن قال ذلك عنه وهو يدعي حبه واتباعه - عليه السلام -؛ وتخجيلا لهم؛ فلما تشوفت لجوابه الأسماع وأصغت له الآذان؛ وكان في ذكره من الحكم ما تقدمت الإشارة إليه؛ ذكره - سبحانه - قائلا: قال ؛ مفتتحا بالتنزيه؛ سبحانك ؛ أي: لك التنزه الأعظم عن كل شائبة نقص؛ ودل بالمضارع على أن هذا القول لا يزال ممنوعا منه؛ فقال: ما يكون لي ؛ أي: ما ينبغي؛ ولا يصح أصلا؛ أن أقول ؛ أي: في وقت من الأوقات؛ ما ليس لي ؛ وأغرق في النفي؛ كما هو حق المقام؛ فقال: بحق
ولما بادر - عليه السلام - إعظاما للمقام؛ إلى الإشارة إلى نفي ما سئل [ ص: 365 ] عنه؛ أتبعه ما يدل على أنه كان يكفي في الجواب عنه: أنت أعلم؛ وإنما أجاب بما تقدم؛ إشارة إلى أن هذا القول تكاد السماوات يتفطرن منه؛ ومبادرة إلى تبكيت من ادعاه له؛ فقال - دالا على أنه لم يقنع بما تضمن أعظم المدح؛ لأن المقام للخضوع -: إن كنت قلته ؛ أي: مطلقا للناس؛ أو حدثت به نفسي؛ فقد علمته ؛ وهو مبالغة في الأدب؛ وإظهار الذلة؛ وتفويض الأمر كله إلى رب العزة; ثم علل الإخبار بعلمه بما هو من خواص الإله؛ فقال: تعلم ؛ ولما كانت النفس يعبر بها عن الذات؛ وكان القول يطلق على النفس؛ فإذا انتفى انتفى اللساني؛ قال: ما في نفسي ؛ أي: وإن اجتهدت في إخفائه؛ فإنه خلقك؛ وما أنا له إلا آلة ووعاء؛ فكيف به إن كنت أظهرته؟!
ولما أثبت له - سبحانه - ذلك؛ نفاه عن نفسه؛ توبيخا لمن ادعى له الإلهية؛ فقال - مشاكلة -: ولا أعلم ما في نفسك ؛ أي: ما أخفيته عني من الأشياء; ثم علل الأمرين كليهما؛ بقوله: إنك أنت ؛ أي: وحدك؛ لا شريك لك؛ علام الغيوب