ولما حصر الدعاء في الذكرى ، وكان ذلك نفعا لهم ورفقا بهم ، لا تزيد طاعتهم في ملك الله شيئا ولا ينقص [ ص: 184 ] إعراضهم من عظمته شيئا ؛ لأن كل ذلك بإرادته; بنى حالا منهم ، فقال تأكيدا لأمر الرسالة بالإنكار على من جحدها وإلزاما لهم بما هم معترفون به ، أما أهل الكتاب فعلما قطعيا ، وأما العرب فتقليدا لهم ؛ ولأنهم سلموا لهم العلم وجعلوهم محط سؤالهم عن محمد - صلى الله عليه وسلم - : وما أي : فقلنا ذلك لهم خاصة والحال أنهم ما قدروا أي : عظموا الله أي : المستجمع لصفات الكمال حق قدره أي : تعظيمه في جحدهم لذكراهم وصدهم عن بشراهم ومقابلتهم للشكر عليه بالكفر له; قال الواحدي : يقال قدر الشيء - إذا سبره وحزره وأراد أن يعلم مقداره - يقدره - بالضم - قدرا ، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - :
، أي : فاطلبوا أن تعرفوه - هذا أصله في اللغة ، ثم قيل لمن عرف شيئا : هو يقدر قدره ، وإذا لم يعرفه بصفاته : إنه لا يقدر قدره ( فإن غم عليكم فاقدروا له ) إذ أي : حين قالوا أي : اليهود ، والآية مدنية وقريش في قبولهم لقولهم ، ويمكن أن تكون مكية ، ويكون قولهم هذا حين أرسلت إليهم قريش تسألهم عنه - صلى الله عليه وسلم - في أمر رسالته واحتجاجه عليهم بإرسال موسى - عليه السلام - وإنزال التوراة عليه ما أنـزل الله أي : ناسين ما له من صفات الكمال على بشر من شيء لأن [ ص: 185 ] من نسب ملكا تام الملك إلى أنه لم يثبت أوامره في رعيته بما يرضيه ليفعلوه وما يسخطه ليجتنبوه ، فقد نسبه إلى نقص عظيم ، فكيف إذا كانت تلك النسبة كذبا! وهذا وإن كان ما قاله إلا بعض العالمين بل بعض أهل الكتاب الذين هم بعض العالمين ، أسند إلى الكل ، لأنهم لم يردوا على قائله ولم يعاجلوه بالأخذ تفظيعا للشأن وتهويلا للأمر ، وبيانا لأنه ، فإذا تحققه فمن طعن فيها أخذ على يده بما يصل إليه قدرته ، كما أنه كذلك كان يفعل لو كان ذلك ناشئا عن أبيه أو أحد ممن يكون فخره به من أبناء الدنيا ، وفي ذلك أتم إشارة إلى أن يجب على كل من سمع بآية من آيات الله أن يسعى إليها ويتعرف أمرها ; روى الواحدي في أسباب النزول بغير سند عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عماد الأمور كلها ، من فرط فيه هلك وأهلك - رضي الله عنهما - ابن عباس أن اليهود قالوا : ما أنزل الله على بشر من شيء ، فأنزل الله تعالى - يعني : هذه الآية ، فقال مشيرا إلى أن اليهود قائلو ذلك ، وملزما بالاعتراف بالكذب أو المساواة للأميين في التمسك بالهوى دون كتاب ، موبخا لهم ناعيا عليهم سوء جهلهم وعظيم بهتهم وشدة وقاحتهم وعدم حيائهم : ومحمد بن كعب القرظي قل أي : لهؤلاء السفهاء الذين تجرؤوا على هذه المقالة غير ناظرين في عاقبتها وما يلزم منها توبيخا لهم وتوقيفا على [ ص: 186 ] موضع جهلهم من أنـزل الكتاب أي : الجامع للأحكام والمواعظ وخيري الدنيا والآخرة الذي جاء به موسى أي : الذي أنتم تزعمون التمسك بشرعه ، حال كون ذلك الكتاب نورا أي : ذا نور يمكن الأخذ به من وضع الشيء في حاق موضعه وهدى للناس أي : ذا هدى لهم كلهم ، أما في ذلك الزمان فبالتقيد به ، وأما عند إنزال الإنجيل فبالأخذ بما أرشد إليه من اتباعه ، وكذا عند إنزال القرآن ، فقد بان أنه هدى في كل زمان ، تارة بالدعاء إلى ما فيه وتارة بالدعاء إلى غيره; ثم بين أنهم أخفوا منه ما هو نص وصريح في الدعاء إلى غيره اتباعا منهم للهوى ولزوما للعمى ، فقال : تجعلونه أي : أيها اليهود قراطيس أي أوراقا مفرقة لتتمكنوا بها من إخفاء ما أردتم تبدونها أي : تظهرونها للناس وتخفون كثيرا أي : منها ما تريدون به تبديل الدين - هذا على قراءة الجماعة بالفوقانية ، وعلى قراءة ابن كثير بالغيبة هو التفات مؤذن بشدة الغضب مشير إلى أن ما قالوه حقيق بأن يستحيى من ذكره فكيف بفعله ! ثم التفت إليهم للزيادة في تبكيتهم إعلاما بأنهم متساوون لبقية الإنسان في أصل الفطرة ، بل وأبي عمرو العرب أزكى منهم وأصح أفهاما ، فلولا ما أتاهم به موسى - عليه السلام - ما فاقوهم بفهم ، ولا زادوا عليهم في علم ، فقال : وعلمتم أي : أيها اليهود بالكتاب الذي أنزل على موسى ما لم تعلموا أنتم أي [ ص: 187 ] أيها اليهود من أهل هذا الزمان ولا آباؤكم أي : الأقدمون الذين كانوا أعلم منكم .
ولما كانوا قد وصلوا في هذه المقالة إلى حد من الجهل عظيم ، قال مشيرا إلى عنادهم : قل أي : أنت في الجواب عن هذا السؤال غير منتظر لجوابهم فإنهم أجلف الناس وأعتاهم الله أي : الذي أنزل ذلك الكتاب ثم بعد أن تقول ذلك لا تسمع لهم شيئا بل ذرهم في خوضهم أي : قولهم وفعلهم المثبتين على الجهل المبنيين على أنهم في ظلام الضلال كالخائض في الماء يعملون ما لا يعلمون يلعبون أي : يفعلون فعل اللاعب ، وهو ما لا يجر لهم نفعا ولا يدفع عنهم ضرا مع تضييع الزمان .