ولما ذكر ذلك ، أتبعه منفعة أخرى تعمهما مع غيرهما مبينا ما أذن [ ص: 202 ] فيه من علم النجوم ومنافعها ، فقال : وهو أي : لا غيره الذي جعل ولما كانت العناية بنا أعظم ، قدم قوله : لكم النجوم أي : كلها سائرها وثابتها وإن كان علمكم يقصر عنها كلها كما يقصر عن الرسوخ والبلوغ في علم السير للسيارة منه لتهتدوا أي : لتكلفوا أنفسكم علم الهداية بها لتعلموا القبلة وأوقات الصلوات والصيام وغير ذلك من منافعكم دنيا ودينا .
ولما كانت الأرض والماء ليس لهما من نفسهما إلا الظلمة ، وانضمت إلى ذلك ظلمة الليل ، قال : في ظلمات البر أي : الذي لا علم فيه ، وإن كانت له أعلام فإنها قد تخفى والبحر فإنه لا علم به ، والإضافة إليهما للملابسة أو تشبيه الملبس من الطرق وغيرها بالظلمة; روى الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي في جزء جمعه في النجوم من طريق أحمد بن سهل الأشناني عن - رضي الله عنه - قال : ( عمر بن الخطاب ، وتعلموا من الأنساب ما تصلون به أرحامكم وتعرفون ما يحل لكم ويحرم عليكم من النساء ثم انتهوا ) . وفيه من طريق تعلموا من النجوم ما تهتدون في البر والبحر ثم انتهوا في زياداته على المسند عبد الله ابن الإمام أحمد - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( يا علي أسبغ الوضوء وإن شق عليك ، ولا تأكل الصدقة ولا تنز الحمير على [ ص: 203 ] الخيل ، ولا تجالس أصحاب النجوم ) علي ! وفيه عن عن - رضي الله عنه - عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : عمر ( لا تسألوا عن النجوم ، ولا تفسروا القرآن برأيكم ، ولا تسبوا أصحابي ؛ فإن ذلك الإيمان المحض ) وعن - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أبي هريرة - رواه من طرق كثيرة; وعن نهى عن النظر في النجوم - رضي الله عنها - مثله سواء ، وعن عائشة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ابن مسعود - رواه من طرق وأسند عن ( إذا ذكر أصحابي فأمسكوا ، وإذا ذكر القدر فأمسكوا ، وإذا ذكرت النجوم فأمسكوا ) قوله تعالى : قتادة وأنهارا وسبلا قال : طرقا وعلامات قال : هي النجوم ، قال : إن الله - عز وجل - إنما : جعلها زينة للسماء ، وجعلها يهتدى بها ، وجعلها رجوما للشياطين ، فمن تعاطى فيها [شيئا] غير ذلك فقد أخطأ حظه وقال رأيه وأضاع نصيبه وتكلف ما لا علم له به - في كلام طويل حسن ، [وهذا الأثر الذي عن خلق هذه النجوم لثلاث خصال أخرجه عنه قتادة في صحيحه] ، وقال صاحب ( كنز اليواقيت في استيعاب المواقيت ) في مقدمة الكتاب : واعلم أن العلم منه محمود ، ومنه مذموم لا يذم لعينه ، إنما يذم في حق العباد لأسباب ثلاثة: أولها : أن يكون مؤديا إلى ضرر كعلم السحر [ ص: 204 ] والطلسمات وهو حق إذ شهد القرآن به وأنه سبب للتفرقة بين الزوجين ، وسحر النبي - صلى الله عليه وسلم - ومرض بسببه ، حتى أخبره البخاري جبرئيل - عليه السلام - وأخرج السحر من تحت حجر في قعر بئر - كما ورد في الحديث الصحيح; ومعرفة ذلك من حيث إنه معرفة ليس مذموما ، أو من حيث إنه لا يصلح إلا لإضرار بالخلق يكون مذموما . والوسيلة إلى الشر شر. الثاني : أن يكون مضرا بصاحبه في غالب الأمر كالقسم الثاني من المستدل به على الحوادث بالأسباب كاستدلال الطبيب بالنبض على ما يحدث من المرض ، وهو معرفة مجاري سنة الله وعادته في خلقه ، ولكنه ذمه الشرع وزجر عنه لثلاثة أوجه : أحدها : أنه يضر بأكثر الناس فإنه إذا قيل : هذا الأمر لسبب سير الكواكب ، وقر في نفس الضعيف العقل أنه مؤثر ، فينمحي ذكر الله عن قلبه ، فإن الضعيف يقصر نظره على الوسائط بخلاف العالم الراسخ ، فإنه يطلع على الشمس والقمر والنجوم مسخرات ، وفرق كبير بين من يقف مع الأسباب وبين من يترقى إلى مسبب الأسباب ، ثم ذكر ما حاصله أن السبب الثاني في النهي عنه أنه تخمين لا يصل إلى القطع; والثالث أنه لا فائدة فيه ، فهو خوض في [ ص: 205 ] فضول ، وأن السبب الثالث مما يذم به ما يذم من العلوم أنه مما لا تبلغه عقول أكثر الناس ولا يستقل به ، ولا ينكر كون العلم ضارا لبعض الأشخاص كما يضر لحم الطير بالرضيع . انتهى . وروى علم النجوم الإحكامي أبو داود عن وابن ماجه - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ابن عباس [وقال صاحب كتاب : ( الزينة ) في آخر كتابه بعد أن ذكر العيافة والزجر ونحوهما ، ويأتي أكثره عنه في سورة الصافات : وروي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ( من اقتبس علما من النجوم اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد ) ( إياكم والنجوم ! فإنها تدعو إلى الكهانة ) ، قال : هذه الأشياء كلها لها أصل صحيح ، فمنها ما كانت من علوم الأنبياء مثل النجوم والخط وغير ذلك ، ولولا الأنبياء الذين أدركوا علم النجوم وعرفوا مجاري الكواكب في البروج وما لها من السير في استقامتها ورجوعها ، وما قد ثبت وصح من الحساب في ذلك بما لا ارتياب فيه - لما قدر الناس على إدراكه ، وذلك كله بوحي من الله - عز وجل - إلى أنبيائهم - عليهم السلام - وقد روي أن إدريس - عليه السلام - ، وروي في الخط أنه كان علم نبي من الأنبياء ، ولولا ذلك لما أدرك الناس هذه اللطائف ولا عرفوها] . أول من علم النجوم
ولما كانت هذه الآيات قد بلغت في البيان حدا علا عن [ ص: 206 ] طوق الإنسان والملائكة والجان لكونها صفة الرحمن ، فكانت فخرا يتوقع فيه التنبيه عليه [فقال] : قد فصلنا أي : بينا بيانا شافيا على ما لنا من العظمة الآيات واحدة في إثر واحدة على هذا الأسلوب المنيع والمثال الرفيع . ولما كانت من الوضوح في حد لا يحتاج إلى كثير تأمل قال : لقوم يعلمون أي : لهم قيام فيما إليهم ، ولهم قابلية العلم ليستدلوا بها بالشاهد على الغائب .