ولما فصل - سبحانه - أحوال الفريقين ، وحض على التذكر تنبيها على أن كل ما في القرآن مما يهدي إليه العقل ، وذكر مآل المتذكرين فأفهم أن غيرهم إلى عطب ؛ لأنهم تولوا ما يضرهم لأنهم تبعوا شهواتهم ، وكان من المعلوم أنهم يعبدون غير مالكهم ، وأنه ما من عبد يخدم غير سيده بغير أمر سيده إلا عاتبه أو عاقبه ، هذا مركوز في كل عقل - ذكر - سبحانه - ما يتقدم ذلك المآل من الأهوال في الأجل المسمى الذي أخفاه عنده وجعله من أعظم مباني هذه السورة ، وأبهمه في أولها ، وبين في أثنائها بعض أحواله مرارا في وجوه من أفانين البيان ، وهو يوم الحشر ، فذكر هنا – سبحانه - بعض أحوال الغافلين وبعض ما يقول لهم فيه وما يفعله معهم من عتاب وعقاب ، لطفا بهم واستعطافا إلى المتاب ، فقال جامعا الفريقين ويوم أي : اذكر في [ ص: 267 ] تذكرك يوم يحشرهم أي : أهل ولايتنا وأهل عداوتنا جميعا لا نذر منهم أحدا يا أي : فنقول على لسان من نشاء من جنودنا لأهل عداوتنا تبكيتا وتوبيخا حين لا يكون لهم مدافعة أصلا : معشر الجن أي : المستترين الموحشين من مردة الشياطين المسلطين على الإنس ، وهم يرونهم من حيث لا ترونهم قد استكثرتم أي : [طلبتم] وأوجدتم الكثرة من الإنس أي : من إغواء [المؤنسين الظاهرين] حتى صار أكثرهم أتباعكم ، [فالآية من الاحتباك : عبر بما يدل على الستر أولا دلالة على ضده - وهو الظهور - ثانيا ، وبما معناه الاستئناس والسكون ثانيا دلالة على ضده وهو الإيحاش والنفرة أولا] . وقال هو عطف على جواب الجن المستتر [عن] العامل في (يا معشر) الذي تقديره كما يهدي إليه الآيات [التي] تأتي في السورة الآتية في تفصيل هذه المحاورة : فقالوا : ربنا هم ضلوا ؛ لأنهم كانوا يستمعون بنا في نفوذهم وسماعهم الأخبار الغريبة منا ، فاستوجبوا العذاب بمفردهم ، وستر جواب الجن لأنه - مع كونه لا يخفى لدلالة المعطوف عليه - مناسب لحالهم في الاستتار مع شهرتهم ، [وذكره] بلفظ الماضي إشارة إلى تحقق وقوعه ؛ لأنه خبر من لا يخلف الميعاد ، والمراد بهذه المحاورة ضرب مما يأتي تفصيله بقوله قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا [ ص: 268 ] الآية ، وقوله : فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا - الآية أولياؤهم أي : الجن من الإنس [أي] الذين تولوهم بالاتباع والطاعة فيما دعوهم إليه من الضلال ، معترفين مستعطفين ربنا [أيها المربي لنا المحسن إلينا] استمتع أي : طلب المتاع وأوجده بعضنا ببعض نحن بهم فيما قالوا ، وهم بنا في طاعتنا لهم وعياذنا بهم وبلغنا أي : نحن وهم أجلنا وأحالوا الأمر على القدر فقالوا : الذي أجلت لنا وهو الموت الذي كتبته علينا وسويت بيننا في سوط قهره وتجرع كؤوس حره وقره ، ثم هذا اليوم الذي كنا مشتركين في التكذيب به ، فاستوجبنا العذاب كلنا .
ولما تم ذلك كان كأنه [قيل : فما] قال الله لهم بعد هذه المحاورة الغريبة التي هي ضرب من كلام أهل الباطن في الدنيا لجلج مضطرب لا حاصل له؟ فقيل : قال أي : المخاطب لهم عن الله النار مثواكم أي : منزلكم جميعا من غير أن تنفعكم الإحالة على القدر خالدين فيها أي : إلى ما لا آخر له ؛ لأن الأعمال بالنية وقد كنتم على عزم ثابت أنكم على هذا الكفر ما بقيتم ولو [إلى] ما لا آخر له ، فالجزاء من جنس العمل .
[ ص: 269 ] ولما كان [من] المقرر أنه لا تمام لملك من يجب عليه شيء ويلزمه بحيث لا يقدر على الانفكاك عنه - بين – سبحانه - أن ملكه ليس كذلك ، بل هو على غاية الكمال ، لا يجب عليه شيء بل كل فعله جميل ، وجميع ما يبدو منه حسن ، فعلق دوام عذابهم على المشيئة ، فقال : إلا ما شاء ولما كان القصد في هذه السورة إلى إظهار العظمة للغيرة على مقام الإلهية - عبر بالاسم الأعظم فقال : الله أي : الذي له رداء الكبر فلا يستطيع أحد أن يعترض عليه ولا أن يهم بذلك ، هيهات هيهات! انقطعت دون ذلك الآمال ، فظلت ناكسة أعناق الرجال ، وبيده إزار العز ، فمن اختلج في سره أن يرفع ناكس عنقه ضربه بمقامع الذل ، وأنزله في مهاوي الخزي ، وقد تقرر أنه - سبحانه - لا يشاء انقطاع شيء من ذلك عنهم في حال من الأحوال ، ونطق الكتاب بذلك في صرائح الأقوال ، وفي سوقه معلقا هكذا مع ما تقدم زيادة في عذابهم بتعليق رجائهم من انقطاع بلائهم بما لا مطمع فيه .
ولما كان في إظهار الجلال في هذا الحال من عظيم الأهوال ما لا يسعه المقال - أتبعه اللطف بالمخاطب به - صلى الله عليه وسلم - فقال : إن ربك أي : المحسن إليك برفع أوليائك وخفض أعدائك .
ولما كان السياق - في مثل هذه المقاولة في مجمع الحكم - للحكمة والعلم ، وكان النظر إلى الحكمة في تنزيل كل شيء منزلة أعظم - قدم [ ص: 270 ] وصفها فقال : حكيم أي : فلا يعذب المخلص ويترك المشرك ولا يعذب بعض من أشرك ويترك بعضا عليم أي : بدقائق الأمور وجلائلها من الفريقين ، فلا يخفى عليه عمل أحد فيهمله لذلك .