الآية " من الناس " خبر مقدم و"من يقول" مبتدأ مؤخر، و"من" تحتمل أن تكون موصولة أو نكرة موصوفة أي: الذي يقول أو فريق يقول، فالجملة على الأول لا محل لها لكونها صلة، وعلى الثاني محلها الرفع لكونها صفة للمبتدأ، واستضعف أن تكون موصولة، قال: لأن "الذي" يتناول قوما بأعيانهم، والمعنى هنا على الإبهام. أبو البقاء
انتهى، وهذا منه غير مسلم؛ لأن المنقول أن الآية نزلت في قوم بأعيانهم كعبد الله بن أبي ورهطه.
وقال الأستاذ الزمخشري : "إن كانت أل للجنس كانت "من" نكرة موصوفة كقوله: من المؤمنين رجال صدقوا وإن كانت للعهد كانت موصولة"، وكأنه قصد مناسبة الجنس للجنس والعهد للعهد، إلا أن هذا الذي قاله غير لازم، بل يجوز أن تكون أل للجنس وتكون [ ص: 118 ] "من" موصولة، وللعهد ومن نكرة موصوفة.
وزعم أنها لا تكون إلا في موضع تختص به النكرة، كقوله: الكسائي
158 - رب من أنضجت غيظا قلبه قد تمنى لي موتا لم يطع
وهذا الذي قاله هو الأكثر، إلا أنها قد جاءت في موضع لا تختص به النكرة، قال:
159 - فكفى بنا فضلا على من غيرنا . .. . . . . . . . . . . . . . . .
و"من" تكون موصولة ونكرة موصوفة كما تقدم، وشرطية، واستفهامية، وهل تقع نكرة غير موصوفة أو زائدة؟ خلاف، واستدل على زيادتها بقول عنترة: الكسائي
160 - يا شاة من قنص لمن حلت له حرمت علي وليتها لم تحرم
ولا دليل فيه لجواز أن تكون موصوفة بـ(قنص) إما على المبالغة أو على حذف مضاف.
و"من " في "من الناس" للتبعيض، وقد زعم قوم أنها للبيان، وهو غلط؛ لعدم تقدم ما يتبين بها.
و"الناس" اسم جمع لا واحد له من لفظه، ويرادفه "أناسي" جمع إنسان أو إنسي، وهو حقيقة في الآدميين، ويطلق على الجن [ ص: 119 ] مجازا.
واختلف النحويون في اشتقاقه: فمذهب سيبويه أن أصله همزة ونون وسين، والأصل: أناس اشتقاقا من الأنس، قال: والفراء
161 - وما سمي الإنسان إلا لأنسه ولا القلب إلا أنه يتقلب
لأنه أنس بحواء، وقيل: بل أنس بربه، ثم حذفت الهمزة تخفيفا، يدل على ذلك قوله:
162 - إن المنايا يطلعـ ـن على الأناس الآمنينا
وقال آخر:
163 - وكل أناس قاربوا قيد فحلهم ونحن خلعنا قيده فهو سارب
وقال آخر:
164 - وكل أناس سوف تدخل بينهم دويهية تصفر منها الأنامل
وذهب إلى أنه من نون وواو وسين، والأصل: نوس، فقلبت الواو ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، والنوس الحركة. الكسائي
وذهب بعضهم إلى أنه من نون وسين وياء، والأصل: نسي، ثم قلبت اللام إلى موضع العين فصار [ ص: 120 ] نيسا، ثم قلبت الياء ألفا لما تقدم في نوس، قال: سموا بذلك لنسيانهم، ومنه الإنسان لنسيانه، قال:
165 - فإن نسيت عهودا منك سالفة فاغفر فأول ناس أول الناس
ومثله:
166 - لا تنسين تلك العهود فإنما سميت إنسانا لأنك ناسي
فوزنه على القول الأول: عال، وعلى الثاني، فعل، وعلى الثالث: فلع بالقلب.
و"يقول": فعل مضارع وفاعله ضمير عائد على "من"، والقول حقيقة: اللفظ الموضوع لمعنى، ويطلق على اللفظ الدال على النسبة الإسنادية وعلى الكلام النفساني أيضا، قال تعالى: ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول وتراكيبه الستة وهي: القول واللوق والوقل والقلو واللقو والولق تدل على الخفة والسرعة، وإن اختصت بعض هذه المواد بمعان أخر.
والقول أصل تعديته لواحد نحو: "قلت خطبة"، وتحكى بعده الجمل، وتكون في محل نصب مفعولا بها إلا أن يضمن معنى الظن فيعمل عمله بشروط عند غير بني سليم مذكورة في كتب النحو، كقوله:
167 - متى تقول القلص الرواسما يدنين أم قاسم وقاسما
168 - قالت وكنت رجلا فطينا هذا لعمر الله إسرائينا
و"آمنا": فعل وفاعل، و"بالله" متعلق به، والجملة في محل نصب بالقول، وكررت الباء في قوله "وباليوم" للمعنى المتقدم في قوله: وعلى سمعهم وعلى أبصارهم وقد سأل سائل فقال: الخبر لا بد وأن يفيد غير ما أفاده المبتدأ، ومعلوم أن الذي يقول كذا هو من الناس لا من غيرهم؟
وأجيب عن ذلك: بأن هذا تفصيل معنوي؛ لأنه تقدم ذكر المؤمنين، ثم ذكر الكافرين، ثم عقب بذكر المنافقين، فصار نظير التفصيل اللفظي، نحو قوله: ومن الناس من يعجبك ومن الناس من يشتري فهو في قوة تفصيل الناس إلى مؤمن وكافر ومنافق، وأحسن من هذا أن يقال: إن الخبر أفاد التبعيض المقصود؛ لأن الناس كلهم لم يقولوا ذلك، وهم غير مؤمنين فصار التقدير: وبعض الناس كيت وكيت.
واعلم أن "من" وأخواتها لها لفظ ومعنى، فلفظها مفرد مذكر، فإن أريد بها غير ذلك فلك أن تراعي لفظها مرة ومعناها أخرى، فتقول: "جاء من قام وقعدوا" والآية الكريمة كذلك، روعي اللفظ أولا فقيل: "من يقول"، والمعنى ثانيا في "آمنا"، وقال : "حسن ذلك لأن الواحد قبل الجمع في الرتبة، ولا يجوز أن يرجع متكلم من لفظ جمع إلى توحيد، لو قلت: ومن [ ص: 122 ] الناس من يقومون ويتكلم لم يجز". ابن عطية
وفي عبارة القاضي ابن عطية نظر، وذلك لأنه منع من مراعاة [اللفظ بعد مراعاة] المعنى، وذلك جائز، إلا أن مراعاة اللفظ أولا أولى، ومما يرد عليه قول الشاعر:
169 - لست ممن يكع أو يستكينو ن إذا كافحته خيل الأعادي
وقال تعالى: ومن يؤمن بالله ويعمل إلى أن قال: "خالدين" فراعى المعنى، ثم قال: قد أحسن الله له رزقا فراعى اللفظ بعد مراعاة المعنى، وكذا راعى المعنى في قوله: "أو يستكينون" ثم راعى اللفظ في "إذا كافحته".
وهذا الحمل جار فيها في جميع أحوالها، أعني من كونها موصولة وشرطية واستفهامية، أما إذا كانت موصوفة فقال الشيخ: "ليس في محفوظي من كلام العرب مراعاة المعنى"، يعني تقول: مررت بمن محسنون لك.
و"الآخر" صفة لليوم، وهو مقابل الأول، ومعنى اليوم الآخر أي عن الأوقات المحدودة.
و " ما هم بمؤمنين " ما نافية، ويحتمل أن تكون هي الحجازية فترفع الاسم وتنصب الخبر، فيكون "هم" اسمها، وبمؤمنين خبرها، والباء زائدة؛ تأكيدا، وأن تكون التميمية فلا تعمل شيئا، فيكون "هم" مبتدأ و"بمؤمنين" الخبر، والباء زائدة أيضا، وزعم - وتبعه أبو علي الفارسي - أن الباء [ ص: 123 ] لا تزاد في خبر "ما" إلا إذا كانت عاملة، وهذا مردود بقول الزمخشري وهو تميمي: الفرزدق،
170 - لعمرك ما معن بتارك حقه ولا منسئ معن ولا متيسر
إلا أن المختار في "ما" أن تكون حجازية؛ لأنه لما سقطت الباء صرح بالنصب، قال الله تعالى: ما هن أمهاتهم ما هذا بشرا وأكثر لغة الحجاز زيادة الباء في خبرها، حتى زعم بعضهم أنه لم يحفظ النصب في غير القرآن إلا في قول الشاعر:
171 - وأنا النذير بحرة مسودة تصل الجيوش إليكم أقوادها
أبناؤها متكنفون أباهم حنقو الصدور وما هم أولادها
وأتى بالضمير في قوله: وما هم بمؤمنين جمعا اعتبارا بمعنى "من" كما تقدم في قوله "آمنا".
فإن قيل: لم أتي بخبر "ما" اسم فاعل غير مقيد بزمان ولم يؤت بعدها بجملة فعلية حتى يطابق قولهم "آمنا" فيقال: وما آمنوا؟ فالجواب: أنه عدل عن ذلك ليفيد أن الإيمان منتف عنهم في جميع الأوقات، فلو أتي به مطابقا لقولهم "آمنا" فقال: وما آمنوا لكان يكون نفيا للإيمان في [ ص: 124 ] الزمن الماضي فقط، والمراد النفي مطلقا، أي: إنهم ليسوا متلبسين بشيء من الإيمان في وقت من الأوقات.