قوله تعالى: " حجابا مستورا " فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أن الحجاب هو الأكنة على قلوبهم، قاله [ ص: 41 ] قتادة .
والثاني: أنه حجاب يستره فلا ترونه، وقيل: إنها نزلت في قوم كانوا يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ القرآن . قال وهم الكلبي: أبو سفيان، والنضر بن الحارث، وأبو جهل، وأم جميل امرأة أبي لهب، فحجب الله رسوله عن أبصارهم عند قراءة القرآن، فكانوا يأتونه ويمرون به ولا يرونه .
والثالث: أنه منع الله عز وجل إياهم عن أذاه، حكاه الزجاج .
وفي معنى " مستورا " قولان:
أحدهما: أنه بمعنى ساتر، قال وهذا قول أهل اللغة . قال الزجاج: وقد يكون الفاعل في لفظ المفعول، كما تقول: إنك مشؤوم علينا، وميمون علينا، وإنما هو شائم ويامن ; لأنه من ( شأمهم، ويمنهم ) . الأخفش:
والثاني: أن المعنى: حجابا مستورا عنكم لا ترونه، ذكره الماوردي . وقال إذا قيل: الحجاب: هو الطبع على قلوبهم، فهو مستور عن الأبصار، فيكون " مستورا " باقيا على لفظه . ابن الأنباري:
قوله تعالى: " وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه " قد شرحناه في ( الأنعام: 25 ) .
قوله تعالى: " وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده " يعني: قلت: لا إله إلا الله، وأنت تتلو القرآن، " ولوا على أدبارهم " قال أي: على أعقابهم، " نفورا " وهو: جمع نافر، بمنزلة قاعد وقعود، وجالس وجلوس . وقال أبو عبيدة: تحتمل مذهبين: أحدهما: المصدر، فيكون المعنى: ولوا نافرين نفورا . والثاني: أن يكون " نفورا " جمع نافر . الزجاج:
وفي المشار إليهم قولان: أحدهما: أنهم الشياطين، قاله والثاني: أنهم المشركون، وهذا مذهب ابن عباس . ابن زيد .
قوله تعالى: " نحن أعلم بما يستمعون به " قال المفسرون: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 42 ] عليه السلام أن يتخذ طعاما ويدعو إليه أشراف عليا قريش من المشركين، ففعل ذلك، ودخل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ عليهم القرآن، ودعاهم إلى التوحيد، وكانوا يستمعون ويقولون فيما بينهم: هو ساحر، هو مسحور، فنزلت هذه الآية: " نحن أعلم بما يستمعون به " ; أي: يستمعونه، والباء زائدة . " إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى " قال هي مصدر من ( ناجيت ) واسم منها، فوصف القوم بها، أبو عبيدة: والعرب تفعل ذلك، كقولهم: إنما هو عذاب، وأنتم غم، فجاءت في موضع ( متناجين ) . وقال والمعنى: وإذ هم ذوو نجوى، وكانوا يستمعون من رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقولون بينهم: هو ساحر، وهو مسحور، وما أشبه ذلك من القول . الزجاج:
قوله تعالى: " إذ يقول الظالمون " يعني: أولئك المشركون، " إن تتبعون " ; أي: ما تتبعون، " إلا رجلا مسحورا " وفيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه الذي سحر فذهب بعقله، قاله عن أبو صالح ابن عباس .
والثاني: مخدوعا مغرورا، قاله مجاهد .
والثالث: له سحر ; أي: رئة، وكل دابة أو طائر أو بشر يأكل فهو: مسحور ومسحر ; لأن له سحرا، قال لبيد:
فإن تسألينا فيم نحن فإننا عصافير من هذا الأنام المسحر
وقال امرؤ القيس:
أرانا مرصدين لأمر غيب ونسحر بالطعام وبالشراب
أي: نغذى ; لأن أهل السماء لا يأكلون، فأراد أن يكون ملكا . فعلى هذا يكون المعنى: إن تتبعون إلا رجلا له سحر، خلقه الله كخلقكم، وليس بملك، وهذا قول أبي عبيدة .
قال والقول قول ابن قتيبة: ; [ أي: مخدوعا ] ; لأن السحر حيلة وخديعة، ومعنى قول مجاهد لبيد: ( المسحر ): المعلل، وقول امرئ القيس: ( ونسحر ); أي: نعلل، وكأنا نخدع، والناس يقولون: سحرتني بكلامك ; أي: خدعتني، ويدل عليه قوله: " انظر كيف ضربوا لك الأمثال " ; لأنهم لو أرادوا رجلا ذا رئة، لم يكن في ذلك مثل ضربوه، فلما أرادوا مخدوعا - كأنه بالخديعة سحر - كان مثلا ضربوه، وكأنهم ذهبوا إلى أن قوما يعلمونه ويخدعونه . قال المفسرون: ومعنى " ضربوا لك الأمثال " : بينوا لك الأشباه، حتى شبهوك بالساحر والشاعر والمجنون، " فضلوا " عن الحق، " فلا يستطيعون سبيلا " فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: لا يجدون سبيلا إلى تصحيح ما يعيبونك به .
والثاني: لا يستطيعون سبيلا إلى الهدى ; لأنا طبعنا على قلوبهم .
والثالث: لا يأتون سبيل الحق لثقله عليهم، ومثله قولهم: لا أستطيع أن أنظر إلى فلان، يعنون: أنا مبغض له، فنظري إليه يثقل، ذكرهن ابن الأنباري .
قوله تعالى: " أإذا كنا عظاما " قرأ ( أيذا ) بهمزة ثم يأتي بياء ساكنة من غير مد، " أينا " مثله، وكذلك في كل القرآن . وكذلك روى ابن كثير: عن قالون إلا أن نافع، كان لا يستفهم في ( أينا )، كان يجعل الثاني [ ص: 44 ] خبرا في كل القرآن، وكذلك مذهب نافعا غير أنه يهمز الأولى همزتين . وقرأ الكسائي، عاصم بهمزتين في الحرفين جميعا . وقرأ وحمزة ( إذا كنا ) بغير استفهام بهمزة واحدة، ( آئنا ) بهمزتين يمد بينهما مدة . ابن عامر:
قوله تعالى: " ورفاتا " فيه قولان:
أحدهما: أنه التراب، ولا واحد له، فهو بمنزلة الدقاق والحطام، قاله وهو مذهب الفراء، مجاهد .
والثاني: أنه العظام ما لم تتحطم، والرفات: الحطام، قاله وقال أبو عبيدة . الرفات: التراب . والرفات: كل شيء حطم وكسر . و " الزجاج: خلقا جديدا " في معنى مجددا .
قوله تعالى: " أو خلقا مما يكبر في صدوركم " فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه الموت، قاله ابن عمر، وابن عباس، والأكثرون . والحسن،
والثاني: أنه السماء والأرض والجبال، قاله مجاهد .
والثالث: [ أنه ] ما يكبر في صدوركم من كل ما استعظموه من خلق الله تعالى، قاله قتادة .
فإن قيل: كيف قيل لهم: " كونوا حجارة أو حديدا " وهم لا يقدرون على ذلك ؟ فعنه جوابان:
أحدهما: إن قدرتم على تغير حالاتكم، فكونوا حجارة أو أشد منها، فإنا نميتكم، وننفذ أحكامنا فيكم، ومثل هذا قولك للرجل: اصعد إلى السماء فإني لاحقك .
والثاني: تصوروا أنفسكم حجارة أو أصلب منها، فإنا سنبيدكم، قال [ ص: 45 ] الأحوص:
إذا كنت عزهاة عن اللهو والصبى فكن حجرا من يابس الصخر جلمدا
معناه: فتصور نفسك حجرا، وهؤلاء قوم اعترفوا أن الله خالقهم وجحدوا البعث، فأعلموا أن الذي ابتدأ خلقهم هو الذي يحييهم .
قوله تعالى: " فسينغضون إليك رءوسهم " قال يحركونها تكذيبا واستهزاء . قال قتادة: يقال: أنغض رأسه: إذا حركه إلى فوق وإلى أسفل . وقال الفراء: المعنى: يحركونها، كما يحرك الآيس من الشيء والمستبعد [ له ] رأسه، يقال: نغضت سنه: إذا تحركت . ابن قتيبة:
قوله تعالى: " ويقولون متى هو " يعنون: البعث، " قل عسى أن يكون قريبا " ; أي: هو قريب . ثم بين متى يكون، فقال: " يوم يدعوكم " يعني: من القبور بالنداء الذي يسمعكم، وهو النفخة الأخيرة " فتستجيبون " ; أي: تجيبون . قال يقوم مقاتل: إسرافيل على صخرة بيت المقدس يدعو أهل القبور في قرن، فيقول: أيتها العظام البالية، وأيتها اللحوم المتمزقة، وأيتها الشعور المتفرقة، وأيتها العروق المتقطعة، اخرجوا إلى فصل القضاء لتجزوا بأعمالكم، فيسمعون الصوت فيسعون إليه .
وفي معنى " بحمده " أربعة أقوال:
أحدها: بأمره، قاله ابن عباس، وابن جريج، وابن زيد .
والثاني: يخرجون من القبور وهم يقولون: سبحانك وبحمدك، قاله [ ص: 46 ] سعيد بن جبير .
والثالث: أن معنى " بحمده " : بمعرفته وطاعته، قاله قال قتادة . تستجيبون مقرين أنه خالقكم . الزجاج:
والرابع: تجيبون بحمد الله لا بحمد أنفسكم، ذكره الماوردي .
قوله تعالى: " وتظنون إن لبثتم إلا قليلا " في هذا الظن قولان:
أحدهما: أنه بمعنى اليقين .
والثاني: أنه على أصله . وأين يظنون أنهم لبثوا قليلا ؟ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: بين النفختين، ومقداره أربعون سنة، ينقطع في ذلك العذاب عنهم، فيرون لبثهم في زمان الراحة قليلا، رواه عن أبو صالح والثاني: في الدنيا، لعلمهم بطول اللبث في الآخرة، قاله ابن عباس . والثالث: في القبور، قاله الحسن . فعلى هذا إنما قصر اللبث في القبور عندهم ; لأنهم خرجوا إلى ما هو أعظم عذابا من عذاب القبور . وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن هذه الآية خطاب للمؤمنين ; لأنهم يجيبون المنادي وهم يحمدون الله على إحسانه إليهم، ويستقلون مدة اللبث في القبور ; لأنهم كانوا غير معذبين . مقاتل .