قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلا . أشحة عليكم فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد أشحة على الخير أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم وكان ذلك على الله يسيرا يحسبون الأحزاب لم يذهبوا وإن يأت الأحزاب [ ص: 364 ] يودوا لو أنهم بادون في الأعراب يسألون عن أنبائكم ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا . لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما
قوله تعالى: قد يعلم الله المعوقين منكم في سبب نزولها قولان .
أحدهما: أن رجلا انصرف من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب، فوجد أخاه لأمه وأبيه وعنده شواء ونبيذ، فقال له: أنت هاهنا ورسول الله بين الرماح والسيوف؟! فقال: هلم إلي، لقد أحيط بك وبصاحبك; والذي يحلف به لا يستقبلها محمد أبدا; فقال له: كذبت، والذي يحلف به، أما والله لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمرك، فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبره، فوجده قد نزل جبريل بهذه الآية إلى قوله: يسيرا ، هذا قول ابن زيد .
والثاني: أن عبد الله بن أبي ومعتب بن قشير والمنافقين الذين رجعوا من الخندق إلى المدينة، كانوا إذا جاءهم منافق قالوا له: ويحك اجلس فلا تخرج، ويكتبون بذلك إلى إخوانهم الذين في العسكر أن ائتونا بالمدينة فإنا ننتظركم- يثبطونهم عن القتال- وكانوا لا يأتون العسكر إلا أن لا يجدوا بدا، فيأتون العسكر ليرى الناس وجوههم، فإذا غفل عنهم عادوا إلى المدينة، فنزلت هذه الآية، قاله ابن السائب .
والمعوق: المثبط; تقول: عاقني فلان، واعتاقني، وعوقني: إذا [ ص: 365 ] منعك عن الوجه الذي تريده . وكان المنافقون يعوقون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نصاره .
قوله تعالى: والقائلين لإخوانهم هلم إلينا فيهم ثلاثة أقوال .
أحدها: أنه المنافق الذي قال لأخيه ما ذكرناه في قول ابن زيد .
والثاني: أنهم اليهود دعوا إخوانهم من المنافقين إلى ترك القتال، قاله مقاتل .
والثالث : أنهم المنافقون دعوا المسلمين إليهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حكاه الماوردي .
قوله تعالى: ولا يأتون البأس أي: لا يحضرون القتال في سبيل الله إلا قليلا للرياء والسمعة من غير احتساب، ولو كان ذلك [القليل] لله لكان كثيرا .
قوله تعالى: أشحة عليكم قال هو منصوب على الحال . المعنى: لا يأتون الحرب إلا تعذيرا، بخلاء عليكم . الزجاج:
وللمفسرين فيما شحوا به أربعة أقوال . أحدها: أشحة بالخير، قاله . مجاهد
[ ص: 366 ] والثاني: بالنفقة في سبيل الله . والثالث: بالغنيمة، رويا عن وقال قتادة . بالظفر والغنيمة . والرابع: بالقتال معكم، حكاه الزجاج: الماوردي .
ثم أخبر عن جبنهم فقال: فإذا جاء الخوف أي: إذا حضر القتال رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت أي: كدوران عين الذي يغشى عليه من الموت، وهو الذي دنا موته وغشيته أسبابه، فإنه يخاف ويذهل عقله ويشخص بصره فلا يطرف، فكذلك هؤلاء، لأنهم يخافون القتل .
فإذا ذهب الخوف سلقوكم قال الفراء: آذوكم بالكلام في الأمن بألسنة حداد سليطة ذربة، والعرب تقول: صلقوكم، بالصاد، ولا يجوز في القراءة; وهذا قول وقد قرأ بالصاد الفراء . أبي بن كعب، وأبو الجوزاء، وأبو عمران الجوني، في آخرين وقال وابن أبي عبلة معنى " الزجاج: سلقوكم " : خاطبوكم أشد مخاطبة وأبلغها في الغنيمة، يقال: خطيب مسلاق: إذا كان بليغا في خطبته أشحة على الخير أي: خاطبوكم وهم أشحة على المال والغنيمة قال إذا كان وقت قسمة الغنيمة، بسطوا ألسنتهم فيكم، يقولون: أعطونا فلستم أحق بها منا; فـأما عند البأس، فأجبن قوم وأخذله للحق، وأما عند الغنيمة، فأشح قوم . قتادة:
وفي المراد بالخير ها هنا ثلاثة أقوال . أحدها: أنه الغنيمة . والثاني: على المال أن ينفقوه في سبيل الله تعالى . والثالث: على رسول الله صلى الله عليه وسلم بظفره .
[ ص: 367 ] قوله تعالى: أولئك لم يؤمنوا أي: هم وإن أظهروا الإيمان فليسوا بمؤمنين، لنفاقهم فأحبط الله أعمالهم قال أبطل جهادهم، لأنه لم يكن في إيمان مقاتل: وكان ذلك الإحباط على الله يسيرا .
ثم أخبر عنهم بما يدل على جبنهم، فقال: يحسبون الأحزاب لم يذهبوا أي: يحسب المنافقون من شدة خوفهم وجبنهم أن الأحزاب بعد انهزامهم وذهابهم لم يذهبوا، وإن يأت الأحزاب [أي]: يرجعوا إليهم كرة ثانية للقتال يودوا لو أنهم بادون في الأعراب أي: يتمنوا لو كانوا في بادية الأعراب من خوفهم، يسألون عن أنبائكم أي: ودوا لو أنهم بالبعد منكم يسألون عن أخباركم، فيقولون: ما فعل محمد وأصحابه، ليعرفوا حالكم بالاستخبار لا بالمشاهدة، فرقا وجبنا; وقيل: بل يسألون شماتة بالمسلمين وفرحا بنكباتهم ولو كانوا فيكم أي: لو كانوا يشهدون القتال معكم ما قاتلوا إلا قليلا فيه قولان .
أحدهما: إلا رميا بالحجارة، قاله ابن السائب .
والثاني: إلا رياء من غير احتساب، قاله مقاتل .
ثم عاب من تخلف بالمدينة بقوله: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة أي: قدوة صالحة . والمعنى: لقد كان لكم به اقتداء لو اقتديتم به في الصبر [معه] كما صبر يوم أحد حتى كسرت رباعيته وشج جبينه وقتل عمه، وآساكم مع ذلك بنفسه .
وقرأ " أسوة " بضم الألف; والباقون بكسر الألف; وهما لغتان . قال عاصم: أهل الفراء: الحجاز وأسد يقولون: " إسوة " بالكسر، وتميم وبعض قيس يقولون: " أسوة " بالضم . وخص الله تعالى بهذه الأسوة المؤمنين، فقال: لمن كان يرجو الله واليوم الآخر والمعنى أن الأسوة برسول الله إنما كانت لمن كان يرجو الله [واليوم الآخر]; وفيه قولان .
[ ص: 368 ] أحدهما: يرجو ما عنده من الثواب والنعيم، قاله والثاني: يخشى الله ويخشى البعث، قاله ابن عباس . مقاتل .
قوله تعالى: وذكر الله كثيرا أي: ذكرا كثيرا، لأن ذاكر الله متبع لأوامره، بخلاف الغافل عنه .
ثم وصف حال المؤمنين عند لقاء الأحزاب، فقال: ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وفي ذلك الوعد قولان .
أحدهما: أنه قوله: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم الآية: [البقرة:214] فلما عاينوا البلاء يومئذ قالوا: هذا ما وعدنا الله ورسوله، قاله ابن عباس، في آخرين . وقتادة
والثاني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدهم النصر والظهور على مدائن كسرى وقصور الحيرة ذكره وغيره . الماوردي
قوله تعالى: وما زادهم يعني ما رأوه إلا إيمانا بوعد الله وتسليما لأمره .