يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا . وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرا . ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها [ ص: 376 ] مرتين وأعتدنا لها رزقا كريما يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا . وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إن الله كان لطيفا خبيرا
قوله تعالى: يا أيها النبي قل لأزواجك الآية، ذكر أهل التفسير أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم سألنه شيئا من عرض الدنيا، وطلبن منه زيادة النفقة، وآذينه بغيرة بعضهن على بعض، فآلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منهن شهرا، وصعد إلى غرفة له فمكث فيها، فنزلت هذه الآية، وكن أزواجه يومئذ تسعا: عائشة، وحفصة، وأم حبيبة، وسودة، وأم سلمة، وصفية الخيبرية، وميمونة الهلالية، وزينب بنت جحش، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض الآية عليهن، فبدأ وجويرية بنت الحارث، فاختارت الله ورسوله، ثم قالت: يا رسول الله لا تخبر أزواجك أني اخترتك; فقال: " إن الله بعثني مبلغا ولم يبعثني متعنتا " بعائشة، . وقد ذكرت حديث التخيير في كتاب " الحدائق " وفي " المغني " بطوله .
[ ص: 377 ] وفي ما خيرهن فيه قولان .
أحدهما: أنه خيرهن بين الطلاق والمقام معه، هذا قول عليها السلام . عائشة
والثاني: أنه خيرهن بين اختيار الدنيا فيفارقهن، أو اختيار الآخرة فيمسكهن، ولم يخيرهن في الطلاق، قاله الحسن، وقتادة .
وفي سبب تخييره إياهن ثلاثة أقوال .
أحدها: أنهن سألنه زيادة النفقة . والثاني: أنهن آذينه بالغيرة . والقولان مشهوران في التفسير .
والثالث : أنه لما خير بين ملك الدنيا ونعيم الآخرة، فاختار الآخرة أمر بتخيير نسائه ليكن على مثل حاله، حكاه أبو القاسم الصيمري .
والمراد بقوله: أمتعكن : متعة الطلاق . والمراد بالسراح: الطلاق، [ ص: 378 ] وقد ذكرنا ذلك في (البقرة: 231) . والمراد بالدار الآخرة . الجنة . والمحسنات: المؤثرات للآخرة .
قال المفسرون: فلما اخترنه أثابهن الله عز وجل ثلاثة أشياء . أحدها: التفضيل على سائر النساء بقوله: لستن كأحد من النساء ، والثاني: أن جعلهن أمهات المؤمنين، والثالث : أن حظر عليه طلاقهن والاستبدال بهن بقوله: لا يحل لك النساء من بعد [الأحزاب: 52] . وهل أبيح له بعد ذلك التزويج عليهن ؟ فيه قولان سيأتي ذكرهما إن شاء الله تعالى .
قوله تعالى: من يأت منكن بفاحشة مبينة أي: بمعصية ظاهرة . قال يعني النشوز وسوء الخلق ابن عباس: يضاعف لها العذاب ضعفين أي: يجعل عذاب جرمها في الآخرة كعذاب جرمين، كما أنها تؤتى أجرها على الطاعة مرتين . وإنما ضوعف عقابهن، لأنهن يشاهدن من الزواجر الرادعة ما لا يشاهد غيرهن، فإذا لم يمتنعن استحققن تضعيف العذاب، ولأن في معصيتهن أذى لرسول الله صلى الله عليه وسلم; وجرم من آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم أكبر من جرم غيره .
قوله تعالى: وكان ذلك على الله يسيرا أي: وكان عذابها على الله هينا . ومن يقنت أي: تطع، و " أعتدنا " قد سبق بيانه [النساء: 37]، والرزق الكريم: الحسن، وهو الجنة .
ثم أظهر فضيلتهن على النساء بقوله: لستن كأحد من النساء قال لم يقل: كواحدة من النساء، لأن " أحدا " نفي عام للمذكر والمؤنث والواحد والجماعة . قال الزجاج: يريد: ليس قدركن عندي مثل قدر غيركن من النساء الصالحات، أنتن أكرم علي، وثوابكن أعظم ابن عباس: إن اتقيتن ، فشرط عليهن التقوى بيانا أن فضيلتهن إنما تكون بالتقوى، لا بنفس اتصالهن برسول الله صلى الله عليه وسلم .
[ ص: 379 ] قوله تعالى: فلا تخضعن بالقول أي لا تلن بالكلام فيطمع الذي في قلبه مرض أي: فجور; والمعنى: لا تقلن قولا يجد به منافق أو فاجر سبيلا إلى موافقتكن له; لأن ذلك أبعد من الطمع في الريبة . والمرأة مندوبة إذا خاطبت الأجانب إلى الغلظة في المقالة،
وقلن قولا معروفا أي: صحيحا عفيفا لا يطمع فاجرا .
وقرن في بيوتكن قرأ نافع، إلا وعاصم أبان، وهبيرة، والوليد بن مسلم عن " ابن عامر: وقرن " بفتح القاف; وقرأ الباقون بكسرها . قال من قرأ بالفتح، فهو من قررت في المكان، فخففت، كما قال: الفراء: ظلت عليه عاكفا [طه: 97]، ومن قرأ بالكسر، فمن الوقار، يقال: قر في منزلك . وقال : من قرأ بالكسر، فهو من الوقار، يقال: وقر في منزله يقر وقورا . ومن قرأ بنصب القاف جعله من القرار . وقرأ ابن قتيبة أبي بن كعب، " واقررن " بإسكان القاف وبراءين الأولى مفتوحة والثانية ساكنة . وقرأ وأبو المتوكل: ، ابن مسعود مثله، إلا أنهما كسرا الراء الأولى . وابن أبي عبلة
قال المفسرون: ومعنى الآية: الأمر لهن بالتوقر والسكون في بيوتهن وأن لا يخرجن .
قوله تعالى: ولا تبرجن قال التبرج: أن يبرزن [ ص: 380 ] محاسنهن . وقال أبو عبيدة: التبرج: إظهار الزينة وما يستدعى به شهوة الرجل . الزجاج:
وفي الجاهلية الأولى أربعة أقوال .
أحدها: أنها كانت بين إدريس ونوح، وكانت ألف سنة، رواه عن عكرمة ابن عباس .
والثاني: أنها كانت على عهد إبراهيم عليه السلام، وهو قول رضي الله عنها . عائشة
والثالث : بين نوح وآدم، قاله الحكم .
والرابع : ما بين عيسى ومحمد عليهما السلام، قاله قال الشعبي . وإنما قيل: " الأولى " ، لأن كل متقدم أول، وكل متقدمة أولى، فتأويله: أنهم تقدموا أمة الزجاج: محمد صلى الله عليه وسلم .
وفي صفة تبرج الجاهلية الأولى ستة أقوال .
أحدها: أن المرأة كانت تخرج فتمشي بين الرجال، فهو التبرج، قاله . والثاني: أنها مشية فيها تكسر وتغنج، قاله مجاهد والثالث: أنه التبختر، قاله قتادة . والرابع: أن المرأة منهن كانت تتخذ الدرع من اللؤلؤ فتلبسه ثم تمشي وسط الطريق ليس عليها غيره، وذلك في زمن ابن أبي نجيح . إبراهيم عليه السلام، [ ص: 381 ] قاله والخامس: أنها كانت تلقي الخمار عن رأسها ولا تشده، فيرى قرطها وقلائدها، قاله الكلبي . السادس: أنها كانت تلبس الثياب تبلغ المال، لا تواري جسدها، حكاه مقاتل . الفراء .
قوله تعالى: إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس وفيه للمفسرين خمسة أقوال .
أحدها: الشرك، قاله والثاني: الإثم، قاله الحسن . والثالث: الشيطان، قاله السدي . ابن زيد . والرابع: الشك . والخامس: المعاصي، حكاهما قال الماوردي . الرجس: كل مستقذر من مأكول أو عمل أو فاحشة . الزجاج:
ونصب " أهل البيت " على وجهين، أحدهما: على معنى: أعني أهل البيت، والثاني: على النداء، فالمعنى: يا أهل البيت .
وفي المراد بأهل البيت ها هنا ثلاثة أقوال .
أحدها: أنهم نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنهن في بيته، رواه عن سعيد بن جبير وبه قال ابن عباس، عكرمة، وابن السائب، ويؤكد هذا القول أن ما قبله وبعده متعلق بأزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم . وعلى أرباب هذا القول اعتراض، وهو أن جمع المؤنث بالنون، فكيف قيل: " عنكم " " ويطهركم " ؟ فالجواب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهن، فغلب المذكر . ومقاتل .
والثاني: أنه خاص في رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي وفاطمة والحسن والحسين، قاله وروي عن أبو سعيد الخدري . أنس وعائشة نحو ذلك . وأم سلمة
والثالث : أنهم أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه، قاله الضحاك .
[ ص: 382 ] وحكى أنهم نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم والرجال الذين هم آله; قال: واللغة تدل على أنها للنساء والرجال جميعا، لقوله: الزجاج عنكم بالميم، ولو كانت للنساء، لم يجز إلا " عنكن " " ويطهركن " .
قوله تعالى: ويطهركم تطهيرا فيه ثلاثة أقوال .
أحدها: من الشرك، قاله . والثاني: من السوء، قاله مجاهد والثالث: من الإثم، قاله قتادة . السدي، ومقاتل .
قوله تعالى: واذكرن فيه قولان .
أحدهما: أنه تذكير لهن بالنعم .
والثاني: أنه أمر لهن بحفظ ذلك . فمعنى واذكرن : واحفظن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله يعني القرآن .
[ ص: 383 ] وفي الحكمة قولان . أحدهما: أنها السنة، قاله والثاني: الأمر والنهي، قاله قتادة . مقاتل .
قوله تعالى: إن الله كان لطيفا أي: ذا لطف بكن إذ جعلكن في البيوت التي تتلى فيها آياته خبيرا بكن إذ اختاركن لرسوله .