قوله تعالى: نعم العبد يعني به سليمان .
[ ص: 127 ] وفي الأواب أقوال قد تقدمت في [بني إسرائيل: 25] أليقها بهذا المكان أنه رجاع بالتوبة إلى الله تعالى مما يقع منه من السهو والغفلة .
قوله تعالى: إذ عرض عليه بالعشي وهو ما بعد الزوال الصافنات وهي الخيل . وفي معنى الصافنات قولان .
أحدهما: أنها القائمة على ثلاث قوائم، وقد أقامت الأخرى على طرف الحافر من يد أو رجل; وإلى هذا المعنى ذهب مجاهد، واختاره وابن زيد، ، وقال: هذا أكثر قيام الخيل إذا وقفت كأنها تراوح بين قوائمها، قال الشاعر: الزجاج
ألف الصفون فما يزال كأنه مما يقوم على الثلاث كسيرا
والثاني: أنها القائمة، سواء كانت على ثلاث أو غير ثلاث، قال على هذا رأيت العرب، وأشعارهم تدل على أنه القيام خاصة . وقال الفراء: : الصافن في كلام ابن قتيبة العرب: الواقف من الخيل وغيرها، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "من سره أن يقوم له الرجال صفونا، فليتبوأ مقعده من النار"، [ ص: 128 ] أي: يديمون القيام له .
فأما الجياد، فهي السراع في الجري . وفي سبب عرضها عليه أربعة أقوال .
أحدها: أنه عرضها لأنه أراد جهاد عدو له، قاله رضي الله عنه . علي بن أبي طالب
والثاني: أنها كانت من دواب البحر . قال بلغني أنها كانت خيلا خرجت من البحر لها أجنحة . وقال الحسن: إبراهيم التيمي: كانت عشرين فرسا ذات أجنحة . وقال ابن زيد: أخرجتها له الشياطين من البحر .
والثالث: أنه ورثها من أبيه داود عليه السلام، فعرضت عليه، قاله وهب بن منبه، ومقاتل .
والرابع: أنه غزا جيشا، فظفر به وغنمها، فدعا بها فعرضت عليه، قاله ابن السائب .
وفي عددها أربعة أقوال . أحدها: ثلاثة عشر ألفا، قاله والثاني: عشرون ألفا، قاله وهب . سعيد بن مسروق . والثالث: ألف فرس، قاله ابن السائب، والرابع: عشرون فرسا، وقد ذكرناه عن ومقاتل . إبراهيم التيمي .
[ ص: 129 ] قال المفسرون: ولم تزل تعرض عليه إلى أن غابت الشمس، ففاتته صلاة العصر، وكان مهيبا لا يبتدئه أحد بشيء، فلم يذكروه، ونسي هو، فلما غابت الشمس ذكر الصلاة، فقال إني أحببت فتح الياء أهل الحجاز وأبو عمرو حب الخير وفيه قولان . أحدهما: أنه المال، قاله سعيد بن جبير، . والثاني: حب الخيل، قاله والضحاك قتادة، والقولان يرجعان إلى معنى واحد، لأنه أراد بالخير الخيل، وهي مال . وقال والسدي . الفراء: العرب تسمي الخيل: الخير . قال : وقد سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الزجاج زيد الخيل: زيد الخير، ومعنى "أحببت" آثرت حب الخير على ذكر ربي; وكذلك قال غير : "عن" بمعنى "على" . وقال بعضهم: يحتمل المعنى: فشغلني عن ذكر ربي . قال الزجاج ومعنى [الكلام]: أحببت حبا، ثم أضاف الحب إلى الخير . وقال أبو عبيدة: : سمى الخيل خيرا، لما فيها من الخير . والمفسرون على أن المراد بذكر ربه: صلاة العصر، قاله ابن قتيبة علي، وابن مسعود، في آخرين . وقال وقتادة : لا أدري هل كانت صلاة العصر مفروضة، أم لا؟، إلا أن اعتراضه الخيل شغله عن وقت كان يذكر الله فيه الزجاج حتى توارت بالحجاب [ ص: 130 ] قال المصنف: وأهل اللغة يقولون: يعني الشمس، ولم يجر لها ذكر، ولا أحسبهم أعطوا في هذا الفكر حقه، لأن في الآية دليلا على الشمس، وهو قوله: "بالعشي" ومعناه: عرض عليه بعد زوال الشمس حتى توارت الشمس بالحجاب، ولا يجوز الإضمار إلا أن يجري ذكر، أو دليل ذكر فيكون بمنزلة الذكر; وأما الحجاب، فهو ما يحجبها عن الأبصار .
قوله تعالى: ردوها علي قال المفسرون: لما شغله عرض الخيل عليه عن الصلاة، فصلاها بعد خروج وقتها، اغتم وغضب، وقال: "ردوها علي"، يعني: أعيدوا الخيل علي فطفق قال : أي: أقبل ابن قتيبة مسحا قال أي: يمسح مسحا . الأخفش:
فأما السوق، فجمع ساق، مثل دور ودار . وهمز السؤق قال ابن كثير، أبو علي: وغير الهمز أحسن منه . وقرأ أبو عمران الجوني، وابن محيصن: "بالسؤوق" مثل الرؤوس . وفي المراد بالمسح هاهنا ثلاثة أقوال .
أحدها: أنه ضربها بالسيف . وروى أبي بن كعب وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في [ ص: 131 ] قوله: "فطفق مسحا بالسوق والأعناق" قال: "بالسيف" . عن مجاهد قال: مسح أعناقها وسوقها بالسيف . وقال ابن عباس الحسن، وقتادة، وابن السائب: قطع أعناقها وسوقها، وهذا اختيار السدي، ومقاتل، والفراء، وأبي عبيدة، والزجاج، ، وابن قتيبة وأبي سليمان الدمشقي، والجمهور .
والثاني: أنه جعل يمسح أعراف الخيل وعراقيبها حبا لها، رواه علي بن أبي طلحة عن وقال ابن عباس . مسحها بيده، وهذا اختيار مجاهد: والقاضي ابن جرير، أبي يعلى .
[ ص: 132 ] والثالث: أنه كوى سوقها وأعناقها وحبسها في سبيل الله تعالى: حكاه الثعلبي .
والمفسرون على القول الأول، وقد اعترضوا [على] القول الثاني، وقالوا: أي مناسبة بين شغلها إياه عن الصلاة وبين مسح أعرافها حبا لها؟! ولا أعلم قوله: "حبا لها" يثبت عن وحملوا قول ابن عباس . "مسحها بيده" أي: تولى ضرب أعناقها . مجاهد
فإن قيل: فالقول الأول يفسد بأنه لا ذنب للحيوان، فكيف وجه العقوبة إليه وقصد التشفي بقتله، وهذا يشبه فعل الجبارين، لا فعل الأنبياء؟
فالجواب: أنه لم يكن ليفعل ذلك إلا وقد أبيح له، وجائز أن يباح له ما يمنع منه في شرعنا، على أنه إذا ذبحها كانت قربانا ، وأكل لحمها جائز، فما وقع تفريط، قال لما ضرب سوقها وأعناقها، شكر الله تعالى له ذلك، فسخر له الريح مكانها، وهي أحسن في المنظر، وأسرع في السير، وأعجب في الأحدوثة . وهب بن منبه:
قوله تعالى: ولقد فتنا سليمان أي: ابتليناه وامتحناه بسلب ملكه وألقينا على كرسيه أي: على سريره جسدا وفيه قولان .
أحدهما: أنه شيطان، قاله والجمهور . وفي اسم ذلك الشيطان ثلاثة أقوال . أحدها: صخر، رواه ابن عباس، عن العوفي وذكر العلماء أنه كان شيطانا مريدا لم يسخر ابن عباس . لسليمان . والثاني: آصف، قاله إلا أنه ليس بالمؤمن الذي عنده الاسم الأعظم، إلا أن بعض ناقلي التفسير حكى أنه [ ص: 133 ] آصف الذي عنده علم من الكتاب، وأنه لما فتن مجاهد، سليمان سقط الخاتم من يده فلم يثبت، فقال آصف: أنا أقوم مقامك إلى أن يتوب الله عليك، فقام في مقامه، وسار بالسيرة الجميلة، هذا لا يصح، ولا ذكره من يوثق به . والثالث: حبقيق، قاله السدي; والمعنى: أجلسنا على كرسيه في ملكه شيطانا . ثم أناب أي: رجع . وفيما رجع إليه قولان . أحدهما: تاب من ذنبه، قاله والثاني: رجع إلى ملكه، قاله قتادة . الضحاك .
وفي سبب ابتلاء سليمان بهذا خمسة أقوال . أحدها: أنه كانت له امرأة يقال لها: جرادة، وكان بين بعض أهلها وبين قوم خصومة، فقضى بينهم بالحق، إلا أنه ود أن الحق كان لأهلها، فعوقب حين لم يكن هواه فيهم واحدا، وأوحى الله تعالى إليه أنه سيصيبك بلاء، فكان لا يدري أيأتيه من السماء، أو من الأرض، رواه عن سعيد بن جبير والثاني: أن زوجته ابن عباس . جرادة كانت آثر النساء عنده، فقالت له يوما: إن أخي بينه وبين فلان خصومة، وإني أحب أن تقضي له، فقال: نعم، ولم يفعل، فابتلي لأجل ما قال، قاله والثالث: أن زوجته السدي . جرادة كان قد سباها في غزاة له، وكانت بنت ملك فأسلمت، وكانت تبكي عنده بالليل والنهار، فسألها عن حالها، فقالت: أذكر أبي وما كنت فيه، فلو أنك أمرت الشياطين فصوروا صورته في داري فأتسلى بها، [ففعل]، فكانت إذا خرج سليمان، تسجد له هي وولائدها [أربعين صباحا، فلما علم سليمان، كسر تلك الصورة ، وعاقب المرأة وولائدها] ثم تضرع إلى الله تعالى مستغفرا مما كان في داره، فسلط الشيطان على خاتمه، [هذا قول والرابع: أنه احتجب عن الناس ثلاثة أيام فأوحى الله تعالى [ ص: 134 ] إليه: يا وهب بن منبه . سليمان، احتجبت عن الناس ثلاثة أيام فلم تنظر في أمور عبادي ولم تنصف مظلوما من ظالم؟! فسلط الشيطان على خاتمه]، قاله والخامس: أنه قارب امرأة من نسائه في الحيض أو غيره، قاله سعيد ابن المسيب . الحسن .
والقول الثاني: أن المراد بالجسد الذي ألقي على كرسيه: أنه ولد [له ولد] فاجتمعت الشياطين، فقال بعضهم لبعض: إن عاش له ولد، لم ينفعك من البلاء، [ ص: 135 ] فسبيلنا أن نقتل ولده أو نخبله، فعلم بذلك سليمان، [فأمر السحاب] فحمله، وعدا ابنه في السحاب خوفا من الشياطين، فعاتبه الله تعالى على تخوفه من الشياطين، ومات الولد، فألقي على كرسيه ميتا جسدا، قاله الشعبي .
والمفسرون على القول الأول . ونحن نذكر قصة ابتلائه على قول الجمهور .
الإشارة إلى ذلك
اختلف العلماء في كيفية ذهاب خاتم سليمان على قولين .
أحدهما: أنه كان جالسا على شاطئ البحر، فوقع منه في البحر، قاله علي رضي الله عنه .
والثاني: أن شيطانا أخذه، وفي كيفية ذلك أربعة أقوال .
أحدها: أنه دخل ذات يوم الحمام ووضع الخاتم تحت فراشه، فجاء الشيطان فأخذه وألقاه في البحر، وجعل الشيطان يقول: أنا نبي الله، قاله سعيد بن المسيب .
والثاني: أن سليمان قال للشيطان: كيف تفتنون الناس؟ قال: أرني خاتمك أخبرك، فأعطاه إياه، فنبذه في البحر، فذهب ملك سليمان، وقعد الشيطان على كرسيه، قاله مجاهد .
والثالث: أنه دخل الحمام، ووضع خاتمه عند أوثق نسائه في نفسه، فأتاها الشيطان فتمثل لها في صورة سليمان وأخذ الخاتم منها، فلما خرج سليمان، طلبه [ ص: 136 ] منها، فقالت: قد دفعته إليك، فهرب سليمان، وجاء الشيطان فجلس على ملكه، قاله سعيد بن جبير .
والرابع: أنه دخل الحمام، وأعطى الشيطان خاتمه فألقاه الشيطان في البحر، فذهب ملك سليمان، وألقي على الشيطان شبهه، قاله قتادة .
فأما قصة الشيطان، فذكر أكثر المفسرين أنه لما أخذ الخاتم رمى به في البحر، وألقي عليه شبه سليمان، فجلس على كرسيه، وتحكم في سلطانه .
وقال لم يلقه في البحر حتى فر من مكان السدي: سليمان . وهل كان يأتي [نساء] سليمان؟ فيه قولان . أحدهما: أنه لم يقدر عليهن، قاله الحسن، والثاني: أنه كان يأتيهن في زمن الحيض، فأنكرنه، قاله وقتادة . والأول أصح . قالوا: وكان يقضي بقضايا فاسدة، ويحكم بما لا يجوز، فأنكره بنو إسرائيل، فقال بعضهم لبعض: إما أن تكونوا قد هلكتم أنتم، وإما أن يكون ملككم قد هلك، فاذهبوا إلى نسائه فاسألوهن، فذهبوا، فقلن: إنا والله قد أنكرنا ذلك; فلم يزل على حاله إلى أن انقضى زمن البلاء . سعيد ابن المسيب;
وفي كيفية بعد الشيطان عن مكان سليمان أربعة أقوال .
أحدها: أن سليمان وجد خاتمه فتختم به، ثم جاء فأخذ بناصية الشيطان، قاله سعيد بن المسيب .
[ ص: 137 ] والثاني: أن سليمان لما رجع إلى ملكه وجاءته الريح والطير والشياطين، فر الشيطان حتى دخل البحر، قاله مجاهد .
والثالث: أنه لما مضى أربعون يوما، طار الشيطان من مجلسه، قاله وهب .
والرابع: أن بني إسرائيل لما أنكروه، أتوه فأحدقوا به، ثم نشروا التوراة فقرؤوا، فطار بين أيديهم حتى ذهب إلى البحر، فوقع الخاتم منه في البحر فابتلعه حوت، قاله السدي .
وفي قدر مكث الشيطان قولان . أحدهما: أربعون يوما، قاله الأكثرون . والثاني: أربعة عشر يوما، حكاه الثعلبي .
وأما قصة سليمان عليه السلام، فإنه لما سلب خاتمه، ذهب ملكه، فانطلق هاربا في الأرض . قال كان يستطعم فلا يطعم، فيقول: لو عرفتموني أعطيتموني، أنا مجاهد: سليمان، فيطردونه، حتى أعطته امرأة حوتا، فوجد خاتمه في بطن الحوت . وقال انطلق سعيد بن جبير: سليمان حتى أتى ساحل البحر، فوجد صيادين قد صادوا سمكا كثيرا وقد أنتن عليهم بعضه، فأتاهم يستطعم، فقالوا: اذهب إلى تلك الحيتان فخذ منها، فقال: لا، أطعموني من هذا، فأبوا عليه، فقال: أطعموني فإني سليمان، فوثب إليه رجل منهم فضربه بالعصا غضبا لسليمان، فأتى تلك الحيتان فأخذ منها شيئا، فشق بطن حوت، فإذا هو بالخاتم . وقال ذكر لي أنه لم يؤوه أحد من الناس، ولم يعرف أربعين ليلة، وكان يأوي إلى امرأة مسكينة، فبينما هو يوما على شط نهر، وجد سمكة، فأتى بها المرأة فشقتها فإذا بالخاتم . وقال الحسن: اشترى سمكة من امرأة فشق بطنها فوجد خاتمه . الضحاك:
وفي المدة التي سلب فيها الملك قولان . أحدهما: أربعون ليلة، [ ص: 138 ] كما ذكرنا عن والثاني: خمسون ليلة: قاله الحسن . قال المفسرون: فلما جعل الخاتم في يده، رد الله عليه بهاءه وملكه، فأظلته الطير، وأقبل لا يستقبله جني ولا طائر ولا حجر ولا شجر إلا سجد له، حتى انتهى إلى منزله . قال السدي: ثم أرسل إلى الشيطان، فجيء به، فأمر به فجعل في صندوق من حديد، ثم أطبق عليه وأقفل، وختم عليه بخاتمه، ثم أمر به فألقي في البحر، فهو فيه إلى أن تقوم الساعة . وقال وهب: جاب صخرة فأدخله فيها، ثم أوثقها بالحديد والرصاص، ثم قذفه في البحر . سعيد بن جبير .
قوله تعالى: وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي فتح الياء نافع، . وفيه قولان . وأبو عمرو
أحدهما: لا يكون لأحد بعدي، قاله مقاتل، وأبو عبيدة . وقد أخرج البخاري في "الصحيحين" من حديث ومسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: أبي هريرة سليمان: ( هب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي ) ، فرددته خاسئا" . "إن عفريتا من الجن تفلت علي البارحة ليقطع علي صلاتي، فأمكنني الله منه، فأخذته، فأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تنظروا إليه كلكم، فذكرت دعوة أخي
[ ص: 139 ] والثاني: لا ينبغي لأحد أن يسلبه مني في حياتي، كما فعل الشيطان الذي جلس على كرسيه، قاله الحسن، وإنما طلب هذا الملك، ليعلم أنه قد غفر له، ويعرف منزلته بإجابة دعوته، قاله وقتادة . ولم يكن في ملكه حين دعا بهذا الريح ولا الشياطين الضحاك . فسخرنا له الريح وقرأ أبو الجوزاء، وأبو جعفر، "الرياح" على الجمع . وأبو المتوكل:
[ ص: 140 ] قوله تعالى: رخاء فيه ثلاثة أقوال .
أحدها: مطيعة، رواه عن العوفي وبه قال ابن عباس، الحسن، . والثاني: أنها الطيبة، قاله والضحاك والثالث: اللينة، مأخوذ من الرخاوة، قاله اللغويون . مجاهد .
فإن قيل: كيف وصفها بهذا بعد أن وصفها في سورة [الأنبياء: 81] بأنها عاصفة؟
فالجواب: أن المفسرين قالوا: كان يأمر العاصف تارة ويأمر الرخاء أخرى . وقال : كأنها كانت تشتد إذا أراد، وتلين إذا أراد . ابن قتيبة
قوله تعالى: حيث أصاب أي: حيث قصد وأراد . قال تقول الأصمعي: العرب: أصاب فلان الصواب فأخطأ الجواب، أي: أراد الصواب .
قوله تعالى: والشياطين أي: وسخرنا له الشياطين كل بناء يبنون له ما يشاء وغواص يغوصون له في البحار فيستخرجون الدر، وآخرين أي: وسخرنا له آخرين، وهم مردة الشياطين، سخرهم له حتى قرنهم في الأصفاد لكفرهم . قال أوثقهم في الحديد . وقد شرحنا [ ص: 141 ] معنى مقاتل: مقرنين في الأصفاد في سورة نبي الله إبراهيم عليه السلام [إبراهيم: 49] .
هذا عطاؤنا المعنى: قلنا له: هذا عطاؤنا . وفي المشار إليه قولان .
أحدهما: أنه جميع ما أعطي، فامنن أو أمسك أي: أعط من شئت من المال، وامنع من شئت . والمن: الإحسان إلى من لا يطلب ثوابه .
والثاني: أنه إشارة إلى الشياطين المسخرين له; فالمعنى: فامنن على من شئت باطلاقه، وأمسك من شئت منهم . وقد روي معنى القولين عن ابن عباس .
قوله تعالى: بغير حساب قال لا تبعة عليك في الدنيا ولا في الآخرة . وقال الحسن: ليس عليك حساب يوم القيامة . وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، تقديره: هذا عطاؤنا بغير حساب فامنن أو أمسك . سعيد بن جبير:
وما بعد هذا قد سبق تفسيره [سبإ: 37، الرعد: 29، الأنبياء: 83] إلى قوله: مسني الشيطان وذلك أن الشيطان سلط عليه، فأضاف ما أصابه إليه .
قوله تعالى: بنصب قرأ الأكثرون بضم النون وسكون الصاد; وقرأ [ ص: 142 ] الحسن، وابن أبي عبلة، وابن السميفع، والجحدري ، ويعقوب: بفتحهما . وهل بينهما فرق؟ فيه قولان .
أحدهما: أنهما سواء . قال هما كالرشد والرشد، والعدم والعدم، والحزن والحزن; وكذلك قال الفراء: ، ابن قتيبة قال المفسرون: والمراد بالنصب: الضر الذي أصابه . والزجاج .
والثاني: أن النصب بتسكين الصاد: الشر، وبتحريكها: الإعياء، قاله أبو عبيدة .
وقرأت عائشة، ومجاهد، وأبو عمران، وأبو جعفر، وشيبة، وأبو عمارة، عن حفص: "بنصب" بضم النون والصاد جميعا . وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، وأبو الجوزاء، وهبيرة عن حفص: "بنصب" بفتح النون وسكون الصاد .
وفي المراد بالعذاب قولان . أحدهما: أنه العذاب الذي أصاب جسده . والثاني: أنه أخذ ماله وولده .
قوله تعالى: اركض أي: اضرب الأرض برجلك ، [ ص: 143 ] ومنه: ركضت الفرس . فركض فنبعت عين ماء، فذلك قوله عز وجل: هذا مغتسل بارد وشراب قال : المغتسل: الماء، وهو الغسول أيضا . قال الحسن: ركض برجله فنبعت عين [فاغتسل منها، ثم مشى نحوا من أربعين ذراعا، ثم ركض برجله فنبعت عين] فشرب منها; وعلى هذا جمهور العلماء أنه ركض ركضتين فنبعت له عينان، فاغتسل من واحدة، وشرب من الأخرى . ابن قتيبة
قوله تعالى: وخذ بيدك ضغثا كان قد حلف لئن شفاه الله ليجلدن زوجته مائة جلدة . وفي سبب هذه اليمين ثلاثة أقوال .
أحدها: أن إبليس جلس في طريق زوجة أيوب كأنه طبيب، فقالت له: يا عبد الله: إن ها هنا إنسانا مبتلى، فهل لك أن تداويه؟ قال: نعم، إن شاء شفيته، على أن يقول إذا برأ: أنت شفيتني، فجاءت فأخبرته، فقال: ذاك الشيطان، لله علي إن شفاني أن أجلدك مائة جلدة، رواه يوسف بن مهران [ ص: 144 ] عن ابن عباس .
والثاني: أن إبليس لقيها فقال: إني أنا الذي فعلت بأيوب ما به، وأنا إله الأرض، وما أخذته منه فهو بيدي، فانطلقي أريك، فمشى بها غير بعيد، ثم سحر بصرها، فأراها واديا عميقا فيه أهلها وولدها ومالها، فأتت أيوب فأخبرته، فقال: ذاك الشيطان، ويحك كيف وعى قوله سمعك؟ والله لئن شفاني الله عز وجل لأجلدنك مائة، قاله وهب بن منبه .
والثالث: أن إبليس جاء إلى زوجته بسخلة، فقال: ليذبح لي هذه وقد برأ; فأخبرته، فحلف ليجلدنها، وقد ذكرنا هذا القول في سورة [الأنبياء: 83] عن الحسن .
فأما الضغث، فقال هو كل ما جمعته من شيء مثل الحزمة الرطبة، قال: وما قام على ساق واستطال ثم جمعته، فهو ضغث . وقال الفراء: : هو الحزمة من الخلال والعيدان . قال ابن قتيبة : هو الحزمة من الحشيش والريحان وما أشبهه . قال المفسرون: جزى الله زوجته بحسن صبرها أن أفتاه في ضربها فسهل الأمر، فجمع لها مائة عود، وقيل: مائة سنبلة، وقيل: كانت أسلا، وقيل: من الإذخر، وقيل: كانت شماريخ، فضربها بها ضربة واحدة ولم يحنث في يمينه . وهل ذلك خاص له، أم لا؟ فيه قولان . الزجاج
[ ص: 145 ] أحدهما: أنه عام، وبه قال ابن عباس، وعطاء بن أبي رباح، والثاني: أنه خاص [وابن أبي ليلى] . لأيوب، قاله مجاهد .
فصل
وقد اختلف الفقهاء فيمن حلف أن يضرب عبده عشرة أسواط فجمعها كلها وضربه بها ضربة واحدة، فقال مالك، لا يبر، وبه قال أصحابنا . وقال والليث بن سعد: أبو حنيفة إذا أصابه في الضربة الواحدة كل واحد منها، فقد بر، واحتجوا بعموم قصة والشافعي: أيوب عليه الصلاة والسلام .
قوله تعالى: إنا وجدناه صابرا أي: على البلاء الذي ابتليناه به .