يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن وآتوهم ما أنفقوا ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن ولا تمسكوا بعصم الكوافر واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا ذلكم [ ص: 238 ] حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون
قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن قال ابن عباس: إن مشركي مكة صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية على أن من أتاه من أهل مكة رده إليهم . ومن أتى أهل مكة من أصحابه، فهو لهم، وكتبوا بذلك الكتاب، وختموه فجاءت سبيعة بنت الحارث الأسلمية بعد الفراغ من الكتاب والنبي بالحديبية، فأقبل زوجها وكان كافرا، فقال: يا محمد: اردد علي امرأتي، فإنك قد شرطت لنا أن ترد علينا من أتاك منا، وهذه طينة الكتاب لم تجف بعد، فنزلت هذه الآية . وذكر جماعة من العلماء منهم محمد ابن سعد كاتب الواقدي أن هذه الآية نزلت في وهي أول من هاجر من النساء إلى أم كلثوم بنت عقبة بن أبي [ ص: 239 ] معيط، المدينة بعد هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدمت المدينة في هدنة الحديبية، فخرج في أثرها أخواها الوليد وعمارة ابنا عقبة، فقالا: يا محمد، أوف لنا بشرطنا، وقالت يا رسول الله، أنا امرأة وحال النساء إلى الضعف ما قد علمت، فتردني إلى الكفار يفتنونني عن ديني، ولا صبر لي؟! فنقض الله عز وجل العهد في النساء، وأنزل فيهن المحنة، وحكم فيهن بحكم رضوه كلهم، ونزل في أم كلثوم: أم كلثوم فامتحنوهن فامتحنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وامتحن النساء بعدها، يقول: والله ما أخرجكن إلا حب الله ورسوله، وما خرجتن لزوج ولا مال؟ فإذا قلن ذلك تركن، فلم يرددن إلى أهليهن .
وقد اختلف العلماء في المرأة التي كانت سببا لنزول هذه الآية على ثلاثة أقوال .
أحدها: أنها سبيعة، وقد ذكرناه عن ابن عباس .
والثاني: وقد ذكرناه عن جماعة من أهل العلم، وهو المشهور . أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط،
والثالث: أميمة بنت بشر من بني عمرو بن عوف، ذكره أبو نعيم الأصبهاني .
قال وقد اختلف أهل العلم هل دخل رد النساء في عقد الهدنة لفظا أو عموما؟ [ ص: 240 ] فقالت طائفة: قد كان شرط ردهن في لفظ الهدنة لفظا صريحا، فنسخ الله تعالى ردهن من العقد، ومنع منه، وأبقاها في الرجال على ما كان . وقالت طائفة: لم يشرط ردهن في العقد صريحا، وإنما أطلق العقد، وكان ظاهر العموم اشتماله مع الرجال، فبين الله عز وجل خروجهن عن عمومه، وفرق بينهن وبين الرجال لأمرين . الماوردي:
أحدهما: أنهن ذوات فروج تحرمن عليهم .
والثاني: أنهن أرق قلوبا، وأسرع تقلبا منهم . فأما المقيمة على شركها فمردودة عليهم . وقال وإنما لم يرد النساء عليهم لأن النسخ جائز بعد التمكين من الفعل، وإن لم يقع الفعل . القاضي أبو يعلى:
قال المفسرون: والمراد بقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه هو الذي تولى امتحانهن، ويراد به سائر المؤمنين عند غيبته صلى الله عليه وسلم . قال ابن زيد: وإنما أمرنا بامتحانهن، لأن المرأة كانت إذا غضبت على زوجها بمكة، قالت: لألحقن بمحمد . وفيما كان يمتحنهن به ثلاثة أقوال . [ ص: 241 ] أحدها: أنه كان يمتحنهن بـ "شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله" رواه عن العوفي ابن عباس .
والثاني: أنه كان يستحلف المرأة بالله: ما خرجت من بغض زوج، ولا رغبة عن أرض إلى أرض، ولا التماس دنيا، وما خرجت إلا حبا لله ولرسوله، روي عن أيضا . ابن عباس
والثالث: أنه كان يمتحنهن بقوله تعالى: إذا جاءك المؤمنات يبايعنك فمن أقرت بهذا الشرط قالت: قد بايعتك، هذا قول . عائشة
قوله تعالى: الله أعلم بإيمانهن أي: إن هذا الامتحان لكم، والله أعلم بهن، فإن علمتموهن مؤمنات وذلك يعلم بإقرارهن، فحينئذ لا يحل ردهن "إلى الكفار" [لأن الله تعالى لم يبح مؤمنة لمشرك "وآتوهم" يعني أزواجهن الكفار] ما أنفقوا يعني: المهر . قال هذا إذا تزوجها مقاتل: . فإن لم يتزوجها أحد، فليس لزوجها الكافر شيء مسلم ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن وهي المهور . [ ص: 242 ]
فصل
عندنا إذا هاجرت الحرة بعد دخول زوجها بها، وقعت الفرقة على انقضاء عدتها . فإن وهذا قول أسلم الزوج قبل انقضاء عدتها فهي امرأته، الأوزاعي، والليث، ومالك، وقال والشافعي . أبو حنيفة: تقع الفرقة باختلاف الدارين .
قوله تعالى: ولا تمسكوا بعصم الكوافر قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، ( تمسكوا ) بضم التاء، والتخفيف . وقرأ والكسائي: أبو عمرو، ويعقوب: ( تمسكوا ) بضم التاء، وبالتشديد . وقرأ ابن عباس، وعكرمة، والحسن، وابن يعمر، وأبو حيوة: ( تمسكوا ) بفتح التاء، والميم، والسين مشددة . و"الكوافر" جمع كافرة، والمعنى: إن الله تعالى وأمرهم بفراقهن . وقال نهى المؤمنين عن المقام على نكاح الكوافر، المعنى: أنها إذا كفرت، فقد زالت العصمة بينها وبين المؤمن، أي: قد انبت عقد النكاح . الزجاج:
وأصل العصمة: الحبل، وكل ما أمسك شيئا فقد عصمه .
قوله تعالى: واسألوا ما أنفقتم أي: إن لحقت امرأة منكم بأهل العهد من الكفار مرتدة، فاسألوهم ما أنفقتم من المهر إذا لم يدفعوها إليكم وليسألوا ما أنفقوا يعني: المشركين الذين لحقت أزواجهم بكم مؤمنات إذا تزوجن منكم، فليسأل أزواجهن الكفار من تزوجهن ما أنفقوا وهو المهر . والمعنى: عليكم أن تغرموا لهم الصداق كما يغرمون لكم . [ ص: 243 ] قال أهل السير: وكانت حين هاجرت عاتقا لم يكن لها زوج فيبعث إليه قدر مهرها، فلما هاجرت تزوجت أم كلثوم زيد بن حارثة .
قوله تعالى: ذلكم حكم الله يعني ما ذكر في هذه الآية .
فصل
وذكر بعضهم في قوله تعالى: ولا تمسكوا بعصم الكوافر أنه نسخ ذلك في حرائر أهل الكتاب بقوله تعالى: والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب [المائدة: 5]، وهذا تخصيص لا نسخ .
قوله تعالى: وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم قال أي: أصبتموهم في القتال بعقوبة حتى غنمتم . وقرأ الزجاج: ابن مسعود، والأزهري، والنخعي: ( فعقبتم ) بغير ألف، وبفتح العين والقاف، وبتخفيفها .
وقرأ ابن عباس، وعائشة، وحميد، مثل ذلك، إلا أن القاف مشددة . قال والأعمش المعنى في التشديد والتخفيف واحد، فكانت العقبى لكم بأن غلبتم . وقرأ الزجاج: ، أبي بن كعب وعكرمة، ( فأعقبتم ) بهمزة ساكنة العين، مفتوحة القاف خفيفة . وقرأ ومجاهد: معاذ القارئ، ( فعقبتم ) بفتح العين، وكسر القاف وتخفيفها من غير ألف . وأبو عمران الجوني:
فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا أي: أعطوا الأزواج من رأس الغنيمة ما أنفقوا من المهر .
وذكر بعض المفسرين أن هذه الآية نزلت في كانت زوجته [ ص: 244 ] مسلمة، وهي عياض بن غنم، أم الحكم بنت أبي سفيان، فارتدت، فلحقت بمكة، فأمر الله المسلمين أن يعطوا زوجها من الغنيمة بقدر ما ساق إليها من المهر، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: براءة من الله ورسوله [التوبة: 1] إلى رأس الخمس .
فصل
قال وهذه الأحكام في أداء المهر، وأخذه من الكفار، وتعويض الزوج من الغنيمة، أو من صداق قد وجب رده على أهل الحرب، منسوخة عند جماعة من أهل العلم . وقد نص القاضي أبو يعلى: على هذا . قلت: وكذا قال أحمد كل هؤلاء الآيات نسختها آية السيف . مقاتل: