قوله تعالى: فتقبلها ربها بقبول حسن قرأ مجاهد (فتقبلها) بسكون اللام (ربها) بنصب الباء (وأنبتها) بكسر الباء وسكون التاء على معنى الدعاء . قال الزجاج: الأصل في العربية: فتقبلها بتقبل حسن ، ولكن "قبول" محمول على قبلها قبولا يقال: قبلت الشيء قبولا ، ويجوز قبولا: إذا رضيته . (وأنبتها نباتا حسنا) أي: جعل نشوءها نشوءا حسنا ، وجاء "نباتا" على غير لفظ أنبت ، على معنى: نبتت نباتا حسنا . وقال ابن الأنباري: لما كان "أنبت" يدل على "نبت" حمل الفعل على المعنى ، فكأنه قال: وأنبتها ، فنبتت هي نباتا حسنا .
[ ص: 378 ] قال امرؤ القيس:
فصرنا إلى الحسنى ورق كلامنا ورضت فذلت صعبة أي إذلال
أراد: أي رياضة: فلما دل "رضت" على "أذللت" حمله على المعنى . وللمفسرين في معنى النبات الحسن ، قولان أحدهما: أنه كمال النشوء ، قال ابن عباس: كانت تنبت في اليوم ما ينبت المولود في عام ، والثاني: أنه ترك الخطايا ، قال قتادة: حدثنا أنها كانت لا تصيب الذنوب ، كما يصيب بنو آدم .
قوله تعالى: (وكفلها) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر: "وكفلها" بفتح الفاء خفيفة ، و"زكرياء" مرفوع ممدود . وروى أبو بكر عن عاصم: تشديد الفاء ، ونصب "زكرياء" ، وكان يمد "زكرياء" في كل القرآن في رواية أبي بكر . وروى حفص عن عاصم: تشديد الفاء و"زكريا" مقصور في كل القرآن . وكان حمزة والكسائي يشددان و"كفلها" ، ويقصران "زكريا" في كل القرآن . فأما "زكريا" فقال الفراء: فيه ثلاث لغات . أهل الحجاز يقولون: هذا زكريا قد جاء ، مقصور ، وزكرياء ، ممدود ، وأهل نجد يقولون: زكري ، فيجرونه ، ويلقون الألف . وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي ، عن ابن دريد ، قال: زكريا اسم أعجمي ، يقال: زكري ، وزكرياء ممدود ، وزكريا مقصور ، وقال غيره: وزكري بتخفيف الياء ، فمن قال: زكرياء بالمد ، قال في التثنيه: زكرياوان ، وفي الجمع زكرياوون ، ومن قال: زكريا بالقصر ، قال في التثنيه زكريان ، كما [ ص: 379 ] تقول: مدنيان ، ومن قال: زكري بتخفيف الياء ، قال في التثنية: زكريان الياء خفيفة ، وفي الجمع: زكرون بطرح الياء .
الإشارة إلى كفالة زكريا مريم
قال السدي: انطلقت بها أمها في خرقها ، وكانوا يقترعون على الذين يؤتون بهم ، فقال زكريا وهو نبيهم يومئذ: أنا أحقكم بها ، عندي أختها ، فأبوا ، وخرجوا إلى نهر الأردن ، فألقوا أقلامهم التي يكتبون بها ، فجرت الأقلام ، وثبت قلم زكريا ، فكفلها . قال ابن عباس: كانوا سبعة وعشرين رجلا ، فقالوا: نطرح أقلامنا ، فمن صعد قلمه مغالبا للجرية فهو أحق بها ، فصعد قلمزكريا ، فعلى هذا القول كانت غلبة زكريا بمصاعدة قلمه ، وعلى قول السدي بوقوفه في جريان الماء وقال مقاتل: كان يغلق عليها الباب ، ومعه المفتاح ، لا يأمن عليه أحدا ، وكانت إذا حاضت ، أخرجها إلى منزله تكون مع أختها أم يحيى ، فإذا طهرت ، ردها إلى بيت المقدس . والأكثرون على أنه كفلها منذ كانت طفلة بالقرعة . وقد ذهب قوم إلى أنه كفلها عند طفولتها بغير قرعة ، لأجل أن أمها ماتت ، وكانت خالتها عنده ، فلما بلغت ، أدخلوها الكنيسة لنذر أمها ، وإنما كان الاقتراع بعد ذلك بمدة ، لأجل سنة أصابتهم . فقال محمد بن إسحاق: كفلها زكريا إلى أن أصابت الناس سنة ، فشكا زكريا إلى بني إسرائيل ضيق يده ، فقالوا: ونحن أيضا كذلك ، فجعلوا يتدافعونها حتى اقترعوا ، فخرج السهم على جريج النجار ، وكان فقيرا ، وكان يأتيها باليسير ، فينمى ، فدخل زكريا ، فقال: ما هذا؟ على قدر نفقة جريج؟ فمن أين هذا؟ قالت: هو من عند الله . والصحيح ما عليه الأكثرون ، وأن القوم تشاحوا على كفالتها ، لأنها كانت بنت سيدهم وإمامهم عمران ، كذلك قال قتادة في آخرين ، وأن زكريا ظهر عليهم بالقرعة منذ طفولتها . فأما المحراب ، فقال أبو عبيدة: [ ص: 380 ] المحراب سيد المجالس ، ومقدمها ، وأشرفها ، وكذلك هو من المسجد . وقال الأصمعي: المحراب هاهنا: الغرفة . وقال الزجاج: المحراب في اللغة: الموضع العالي الشريف .
قال الشاعر:
ربة محراب إذا جئتها لم ألقها أو أرتقي سلما
قوله تعالى: (وجد عندها رزقا) قال ابن عباس: ثمار الجنة ، فاكهة الصيف في الشتاء ، وفاكهة الشتاء في الصيف ، وهذا قول الجماعة .
قوله تعالى: (أنى لك هذا) أي: من أين؟ قال الربيع بن أنس: كان زكريا إذا خرج ، أغلق عليها سبعة أبواب ، فإذا دخل وجد عندها رزقا . وقال الحسن: لم ترتضع ثديا قط ، وكان يأتيها رزقها من الجنة ، فيقول زكريا: أنى لك هذا؟ فتقول: هو من عند الله ، فتكلمت وهي صغيرة . وزعم مقاتل أن زكريا استأجر لها ظئرا ، وعلى ما ذكرنا عن ابن إسحاق يكون قوله لها: أنى لك هذا؟ لاستكثار ما يرى عندها . وما عليه الجمهور أصح . والحساب في اللغة: التقتير والتضييق .


