ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين .
قوله تعالى: (ذلك من أنباء الغيب) "ذلك" إشارة على ما تقدم من قصة زكرياء ، ويحيى ، وعيسى ، ومريم . والأنباء: الأخبار . والغيب: ما غاب عنك . والوحي: كل شيء دللت به من كلام ، أو كتاب ، أو إشارة ، أو رسالة ، قاله والوحي في القرآن على أوجه تراها في كتابنا الموسوم بـ"الوجوه والنظائر" مونقة . وفي الأقلام ثلاثة أقوال . أحدها: أنها التي يكتب بها ، قاله ابن قتيبة . ابن عباس ، وابن جبير ، والثاني: أنها العصي ، قاله والسدي . والثالث: أنها القداح ، وهو اختيار الربيع بن أنس . وكذلك قال ابن قتيبة ، هي قداح جعلوا عليها علامات يعرفونها على جهة القرعة . وإنما قيل للسهم: [ ص: 389 ] القلم ، لأنه يقلم ، أي: يبرى . وكل ما قطعت منه شيئا بعد شيء ، فقد قلمته ، ومنه القلم الذي يكتب به ، لأنه قلم مرة بعد مرة ، ومنه: قلمت أظفاري . قال: ومعنى: الزجاج: (أيهم يكفل مريم) لينظروا أيهم تجب له كفالة مريم ، وهو الضمان للقيام بأمرها . ومعنى: (لديهم) عندهم وقد سبق شرح كفالتهم لها آنفا . وفي المراد بالكلمة هاهنا ثلاثة أقوال . أحدها: أنه قول الله له: "كن" فكان ، قاله ابن عباس ، والثاني: أنها بشارة الملائكة وقتادة . مريم بعيسى ، حكاه والثالث: أن الكلمة اسم أبو سليمان . لعيسى ، وسمي كلمة ، لأنه كان عن الكلمة . وقال لأنه يهتدى به كما يهتدى بالكلمة من الله تعالى . وفي تسميته القاضي أبو يعلى: بالمسيح ستة أقوال . أحدها: أنه لم يكن لقدمه أخمص ، والأخمص: ما يتجافى عن الأرض من باطن القدم ، رواه عن عطاء والثاني: أنه كان لا يمسح بيده ذا عاهة إلا برأ ، رواه ابن عباس . عن الضحاك والثالث: أنه مسح بالبركة ، قاله ابن عباس . الحسن ، وسعيد . والرابع: أن معنى المسيح: الصديق قاله مجاهد ، وذكره وإبراهيم النخعي ، قال اليزيدي . ومعنى هذا أن الله مسحه ، فطهره من الذنوب . والخامس: أنه كان يمسح الأرض أي: يقطعها ، ذكره أبو سليمان الدمشقي: وبيانه: أنه كان كثير السياحة . والسادس: أنه خرج من بطن أمه ممسوحا بالدهن ، قاله ثعلب . وحكاه أبو سليمان الدمشقي ، ابن القاسم وقال أبو عبيد: المسيح في كلام العرب على معنيين . أحدهما: المسيح الدجال ، والأصل فيه: الممسوح ، لأنه ممسوح أحد العينين . والمسيح عيسى ، وأصله بالعبرانية "مشيحا" بالشين ، فلما عربته العرب ، أبدلت من شينه سينا ، كما قالوا: موسى ، وأصله بالعبرانية موشى . قال وإنما بدأ بلقبه ، فقال: ابن الأنباري: المسيح عيسى بن مريم ، لأن المسيح أشهر من عيسى ، لأنه قل أن يقع على سمي يشتبه به ، وعيسى قد يقع على عدد كثير ، فقدمه لشهرته ، ألا ترى أن ألقاب الخلفاء أشهر من أسمائهم . فأما قوله: عيسى بن مريم ، فإن ما نسبه إلى أمه ، لينفي ما قال عنه الملحدون من النصارى ، إذ أضافوه إلى الله تعالى .
[ ص: 390 ] قوله تعالى: (وجيها) قال ابن زيد: التوجيه في كلام العرب: المحبب المقبول . وقال الوجيه: ذو الجاه . وقال ابن قتيبة: هو ذو المنزلة الرفيعة عند ذوي القدر والمعرفة ، يقال: قد وجه الرجل يوجه وجاهة ، ولفلان جاه عند الناس ، أي: منزلة رفيعة . الزجاج:
قوله تعالى: (ومن المقربين) قال عند الله يوم القيامة . والمهد: مضجع الصبي في رضاعه ، وهو مأخوذ من التمهيد ، وهو التوطئة . وفي تكليمه للناس في تلك الحال قولان . أحدهما: لتبرئه أمه مما قذفت به . والثاني: لتحقيق معجزاته الدالة على نبوته . قال قتادة: تكلم ساعة في مهده ، ثم لم يتكلم حتى بلغ مبلغ النطق . ابن عباس: (وكهلا) قال: ابن ثلاثين سنة أرسله الله تعالى ، فمكث في رسالته ثلاثين شهرا ، ثم رفعه الله . وقال جاءه الوحي على رأس ثلاثين سنة ، فمكث في نبوته ثلاث سنين ، ثم رفعه الله . قال وهب بن منبه: كان عليه السلام قد زاد على الثلاثين ، ومن أربى عليها ، فقد دخل في الكهولة . والكهل عند ابن الأنباري: العرب: الذي قد جاوز الثلاثين ، وإنما سمي الكهل كهلا ، لاجتماع قوته ، وكمال شبابه ، وهو من قولهم: قد اكتهل النبات . وقال الكهل: الرجل حين وخطه الشيب . فإن قيل: قد علم أن الكهل يتكلم ، فعنه ثلاثة أجوبة . أحدها: أن هذا الكلام خرج مخرج البشارة بطول عمره ، أي: أنه يبلغ الكهولة . وقد روي عن ابن فارس: أنه قال: (وكهلا) قال: ذلك بعد نزوله من السماء . والثاني: أنه أخبرهم أن الزمان يؤثر فيه ، وأن الأيام تنقله من حال إلى حال ، ولو كان إلها لم يدخل عليه هذا التغير ، ذكره ابن عباس والثالث: أن المراد بالكهل: الحليم ، قاله ابن جرير الطبري . مجاهد .