القول في تأويل قوله تعالى :
[ 66 ] الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين .
الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين
[ ص: 3033 ] في الآية مسائل :
الأولى : ، والمبالغة في الحث عليه ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرض أصحابه عند صفهم ، ومواجهة العدو ، كما مشروعية الحض على القتال بدر ، حين أقبل المشركون في عددهم وعددهم : « قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض » ، فقال عمير بن الحمام : عرضها السموات والأرض ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « نعم » ! فقال : بخ بخ ، فقال : « ما يحملك على قولك بخ بخ » ؟ قال : رجاء أن أكون من أهلها . قال : « فإنك من أهلها » . فتقدم الرجل ، فكسر جفن سيفه ، وأخرج تمرات فجعل يأكل منهن ، ثم ألقى بقيتهن من يده ، وقال : لئن أنا حييت حتى آكلهن ، إنها لحياة طويلة ، ثم تقدم فقاتل حتى قتل رضي الله عنه . قال لهم يوم
الثانية : ذهب الأكثرون إلى أن قوله تعالى : إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا شرط في معنى الأمر بوجوب مصابرة الواحد للعشرة أي : بألا يفر منهم .
روى عن البخاري قال : لما نزلت : ابن عباس إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين كتب عليهم ألا يفر واحد من عشرة ، ولا عشرون من مائتين ، ثم نزلت : الآن خفف الله عنكم الآية ، فكتب أن لا يفر مائة من مائتين .
وفي رواية أخرى عنه قال : لما نزلت : إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين شق ذلك على المسلمين ، فنزلت : الآن خفف الله عنكم الآية ، فلما خفف الله عنهم من العدة ، نقص عنهم من الصبر ، بقدر ما خفف عنهم .
[ ص: 3034 ] قال في ( " اللباب " ) : فظاهر هذا أن قوله تعالى : الآن خفف الله عنكم ناسخ لما تقدم في الآية الأولى ، وكان هذا الأمر يوم بدر ، فرض الله سبحانه وتعالى على الرجل الواحد من المسلمين قتال عشرة من الكافرين ، فثقل ذلك على المؤمنين ، فنزلت : الآن خفف الله عنكم أيها المؤمنون وعلم أن فيكم ضعفا يعني في قتال الواحد للعشرة ، فإن تكن منكم مائة صابرة محتسبة يغلبوا مائتين ، وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله . فرد العشرة إلى الاثنين ، فإذا كان المسلمون على قدر النصف من عدوهم لا يجوز لهم أن يفروا ، فأيما رجل فر من ثلاثة فلم يفر ، ومن فر من اثنين فقد فر . انتهى .
قال في ( " العناية " ) : وذهب إلى أنها مخففة لا ناسخة ، كتخفيف الفطر للمسافر . وثمرة الخلاف أنه لو قاتل واحد عشرة ، فقتل ، هل يأثم أو لا ؟ فعلى الأول يأثم ، وعلى الثاني لا يأثم . مكي
وقال الرازي : أنكر أبو مسلم الأصفهاني دعوى النسخ في الآية ، وقال : الأمر الذي فهم من الآية مشروط بكون العشرين قادرين على الصبر ، أي : إن حصل منكم عشرون موصوفون بالصبر على مقاومة المائتين ، فليشتغلوا بمقاومتهم .
ثم دل قوله تعالى : الآن خفف الله عنكم على أن ذلك الشرط غير حاصل منهم ، فلم يكن التكليف لازما عليهم .
وبالجملة ، فالآية الأولى دلت على ثبوت حكم عند شرط مخصوص ، والثانية دلت على أن ذلك الشرط مفقود في حق هؤلاء الجماعة ، فلم يثبت ذلك الحكم ، وعلى هذا فلا نسخ ، ولا يقال إن قوله تعالى : الآن خفف الله عنكم مشعر بأن هذا التكليف كان متوجها عليهم قبله ، لأن لفظ التخفيف لا يستلزم الدلالة على حصول التثقيل قبله ، لأن عادة العرب الرخصة بمثل هذا الكلام ، كقوله تعالى في ترخيصه للحر في نكاح الأمة : يريد الله أن يخفف عنكم وليس هناك نسخ ، وإنما هو إطلاق نكاح الأمة لمن لا يستطيع نكاح الحرائر ، فكذا هاهنا .
[ ص: 3035 ] ومما يدل على عدم النسخ ذكر هذه الآية مقارنة للأولى وجعل الناسخ مقارنا للمنسوخ ، لا يجوز إلا بدليل قاهر .
قال الرازي : بعد تقرير كلام أبي مسلم : إن ثبت إجماع الأمة قبل أبي مسلم على حصول النسخ في الآية ، فلا كلام عليه ، وإلا فقول أبي مسلم صحيح حسن . انتهى .
الثالثة : في قوله تعالى : بأنهم قوم لا يفقهون إشارة إلى علة غلبة المؤمنين عشرة أمثالهم من الكفار ، فالظرف متعلق بـ : ( يغلبوا ) أي : بسبب أنهم قوم جهلة بالله تعالى واليوم الآخر ، لا يقاتلون احتسابا وامتثالا لأمر الله تعالى ، وإعلاء لكلمته ، وابتغاء لرضوانه ، كما يفعله المؤمنون ، وإنما يقاتلون للحمية الجاهلية ، واتباع خطوات الشيطان ، وإثارة ثائرة البغي والعدوان ، فلا يستحقون إلا القهر والخذلان . أفاده أبو السعود .
الرابعة : قال الرازي : احتج هشام على قوله : إن الله تعالى لا يعلم الجزئيات إلا عند وقوعها ، بقوله : الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا إذ يقتضي أن علمه يضعفهم ما حصل إلا في هذا الوقت .
وأجاب المتكلمون بأن معناه : الآن حصل العلم بوقوعه وحصوله ، وأما قبل ذلك فقد كان الحاصل العمل بأنه سيقع أو سيحدث . انتهى .
وقال الطيبي رحمه الله : معناه الآن خفف الله عنكم لما ظهر متعلق علمه تعالى ، أي : كثرتكم الموجبة لضعفكم بعد ظهور قتلكم وقوتكم .
الخامسة : في ( الضعف ) لغتان : الفتح والضم ، بهما قرئ . وهو يؤكد كونهما بمعنى فيكونان في الرأي والبدن . وقيل : ( الفتح ) في الرأي والعقل ، و ( الضم ) في البدن . وهو منقول عن الخليل وقرئ : ( ضعفاء ) بصيغة الجمع .
السادسة : إن قيل : إن كفاية عشرين لمائتين تغني عن كفاية مائة لألف وكفاية مائة لمائتين تغني عن كفاية ألف لألفين ، لما تقرر من وجوب ثبات الواحد للعشرة في الأولى ، وثبات الواحد للاثنين في الثانية ، فما سر هذا التكرير ؟
أجيب : بأن سره كون كل عدة بتأييد القليل [ ص: 3036 ] على الكثير لزيادة التكرير المفيد لزيادة الاطمئنان ، والدلالة على أن الحال مع القلة والكثرة واحدة ، لا تتفاوت ، فإن العشرين قد لا تغلب المائتين ، وتغلب المائة الألف ، وأما الترتيب في المكرر فعلى ذكر الأقل ثم الأكثر على الترتيب الطبيعي .
قال في ( " الفتح " ) : وقد قيل في سر ذلك : إن بشارة للمسلمين بأن جنود الإسلام سيجاوز عددها العشرات والمئات إلى الألوف .
السابعة : قال في ( " البحر " ) : انظر إلى فصاحة هذا الكلام ، حيث أثبت في الشرطية الأولى قيد الصبر ، وحذف نظيره من الثانية ، وأثبت في الثانية قيد كونهم من الكفرة وحذفه من الأولى ، ولما كان الصبر شديد المطلوبية أثبت في جملتي التخفيف وحذف من الثانية لدلالة السابقة عليه ، ثم ختمت بقوله :
والله مع الصابرين مبالغة في شدة المطلوبية ، ولم يأت في جملتي التخفيف بقيد الكفر ، اكتفاءا بما قبله .
قال الشهاب : هذا نوع من البديع يسمى الاحتباك ، وبقي عليه أنه ذكر في التخفيف
بإذن الله وهو قيد لهما ، وقوله : والله مع الصابرين إشارة إلى تأييدهم ، وأنهم منصورون حتما لأن من كان الله معه لا يغلب .
وبقي فيها لطائف ، فلله در التنزيل ما أحلى ماء فصاحته ! وأنضر رونق بلاغته !