[ ص: 4861 ] القول في تأويل قوله تعالى:
[36] وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا .
وما كان لمؤمن ولا مؤمنة أي: ما صح لهما: إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم أي: قضى الله ورسوله في أنفسهم قضاء، أن يتخيروا من أمرهم غير الذي قضى فيهم، ويخالفوا أمر الله وأمر رسوله وقضاءهما ويعصوهما، لما في ذلك من المأثم، كما قال تعالى: ومن يعص الله ورسوله أي: فيما أمرا أو نهيا: فقد ضل ضلالا مبينا أي: جار عن قصد السبيل، وسلك غير الهدى والرشاد، وقد ذكر أن هذه الآية نزلت في ، حين خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش ، فأبت لكونه مولى لا يماثلها في الشرف. فنزلت الآية فرضيت وتزوجها. لزيد بن حارثة
قال المهايمي: الظاهر أن الخطبة كانت بطريق الوجوب. ويحتمل أن تكون لا بطريق الوجوب، لكن اعتبار العار في مقابلة خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم معصية، لما فيه من ترجيح قول أهل العرف على قول رسول الله صلى الله عليه وسلم مع كونه قول الله بالحقيقة.
وقال بعضهم: إنما عد التنزيل إباءها عصيانا، وكأنه أرغمها على زواجه، لما أوقع الله من المصلحة لها وللمسلمين في ذلك. وهو الفاشي في الجاهلية. كما سيأتي سياقه. هدم تحريم زوجة المتبنى،
وذكر أيضا أنها نزلت في . وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط الحديبية- فوهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم، فزوجها أول من هاجر من النساء -بعد صلح أي: بعد فراقه زيدا- - فسخطت، فنزلت الآية، فرضيت. زينب
وروى عن الإمام أحمد قال: [ ص: 4862 ] أنس جليبيب رضي الله عنه، امرأة من الأنصار إلى أبيها. فقال: حتى أستأمر أمها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « نعم إذا » . قال: فانطلق الرجل إلى امرأته، فذكر ذلك لها، فأبت أشد الإباء. فقالت الجارية: أتريدون أن تردوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره؟ إن كان قد رضيه لكم، فأنكحوه. قال: فكأنها جلت عن أبويها وقالا: صدقت. فذهب أبوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن كنت رضيته فقد رضيناه. قال صلى الله عليه وسلم: « فإني قد رضيته » . قال: فزوجها. ثم ذهب مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة، فقتل. ورئي حوله ناس من المشركين قد قتلهم. قال : فلقد رأيتها وإنها لمن أنفق بيت في أنس المدينة. وفي رواية: (فما كان في الأنصار أيم أنفق منها). خطب النبي صلى الله عليه وسلم على
وذكر في (الاستيعاب) أن الجارية لما قالت في خدرها: أتردون على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره، نزلت هذه الآية: الحافظ ابن عبد البر وما كان لمؤمن ولا مؤمنة
ولا يخفى شمول الآية لما ذكر ولغيره، إلا أن تأثر هذه الآية بقصة وزوجته، الآتية، يؤيد أنها نزلت في زوجه زيد ، لتناسق نظام الآيات حينئذ، وظهور هذه الآية كالطليعة لهذه القصة الجليلة. زينب
وقد قدمنا مرارا أن معنى قولهم: (نزلت الآية في كذا). أنها مما تشمله لعموم مساقها; ولذا سأل طاوس عن ركعتين بعد صلاة العصر فنهاه. وقرأ له هذه الآية. ابن عباس
قال : هذه الآية عامة في جميع الأمور، وذلك أنه إذا حكم الله ورسوله بشيء فليس لأحد مخالفته، ولا اختيار لأحد ها هنا، ولا رأي ولا قول، كما قال تبارك وتعالى: ابن كثير فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما وفي الحديث: . ولهذا شدد في خلاف ذلك فقال: « والذي نفسي بيده! لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به » ومن يعص الله ورسوله [ ص: 4863 ] فقد ضل ضلالا مبينا كقوله تعالى: فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم
لطائف:
الأولى- قالوا على الروايات السالفة: إن ذكر الله في الآية، مع أن الآمر لهم الرسول صلى الله عليه وسلم، للدلالة على أنه بمنزلة من الله، بحيث تعد أوامره أوامر الله تعالى، أو أنه لما كان ما يفعله بأمره، لأنه لا ينطق عن الهوى، ذكرت الجلالة وقدمت للدلالة على ذلك. انتهى.
وهذا وقوف مع ما روي، وإلا فظاهر الآية يعم ما إذا قضى الله من كتابه، ورسوله في سنته.
الثانية-: "الخيرة" هنا مصدر، وذكروا أنه لم يجئ من المصادر على وزنه غير: طيرة.
الثالثة - جمع الضمير الأول -وهو لهم- لعموم مؤمن ومؤمنة من حيث إنهما في سياق النفي. قال الشهاب: واعتبر عمومه، وإن كان سبب نزوله خاصا، دفعا لتوهم اختصاصه بسبب النزول، أو ليؤذن أنه كما لا يصح ما اختاروه مع الانفراد، لا يصح مع الجمع أيضا كيلا يتوهم أن للجمعية قوة تصححه. انتهى.
وجمع الثاني -وهو ضمير من أمرهم- مع أنه الرسول صلى الله عليه وسلم، أو له ولله تعالى، للتعظيم. هذا ما أشار له القاضي وغيره. مع أنه لا يظهر امتناع عوده على ما عاد عليه الأول، مع ترجيحه بعدم التفكيك فيه، على أن يكون المعنى: ناشئة من أمرهم. والمعنى دواعيهم السابقة إلى اختيار خلاف ما أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، أو المعنى الاختيار في شيء من أمرهم، أي: دواعيهم. ورد هذا، بأنه قليل الجدوى، ضرورة أن الخيرة ناشئة من دواعيهم.. أو واقعة في أمورهم. وهو بين مستغن عن البيان. بخلاف ما إذا كان المعنى بدل [ ص: 4864 ] أمره الذي قضاه صلى الله عليه وسلم، أو متجاوزين عن آمره لتأكيده وتقريره للنفي. فهذا هو المانع من عوده إلى ما عاد عليه الأول.
قال الشهاب: وهو كلام حسن، ثم أشار تعالى إلى ما من به على المسلمين من هدم تحريم زوجة الدعي، والمتبنى الذي كان فاشيا في الجاهلية، بما جرى بين زيد متبنى النبي صلى الله عليه وسلم وزوجه من الفراق، ثم تزويجه تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم إياها، رفعا للحرج فيه. فقال تعالى: