القول في تأويل قوله تعالى:
[ 11] فاطر السماوات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا يذرؤكم فيه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير
فاطر السماوات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا أي من جنسهم أزواجا [ ص: 5225 ] أي: نساء. ومن الأنعام أزواجا أي أصنافا مختلفة، أو ذكورا وإناثا، يذرؤكم فيه أي: يكثركم من (الذرء) وهو البث. يقال: ذرأ الله الخلق، بثهم كثرهم، و فسر ب: (يخلقكم)، و ضمير { فيه } للبطن أو الرحم. وقال : أي: في هذا التدبير، وهو أن الزمخشري ، والضمير في (يذرؤكم) يرجع إلى المخاطبين والأنعام مغلبا فيه المخاطبون العقلاء على الغيب مما لا يعقل، فإن قلت: ما معنى يذرؤكم في هذا التدبير؟ وهلا قيل: يذرؤكم به؟ قلت: جعل هذا التدبير كالمنع والمعدن للبث والتكثير. انتهى. جعل للناس والأنعام أزواجا، حتى كان بين ذكورهم وإناثهم التوالد والتناسل
وقيل (في) مستعارة للسببية ليس كمثله شيء وهو السميع البصير قال : فيه وجهان: أحدهما أن يكون معناه: ليس مثله شيء، وتكون الكاف هي المدخلة في الكلام. انتهى. ابن جرير
وبقي ثالث؛ وهو أن المثل بمعنى الصفة، أي ليس كصفته صفة، ورابع -وهو ما عول عليه المحققون- أن المراد من (مثله) ذاته، كما في قولهم: مثلك لا يبخل، على قصد المبالغة في نفيه عنه، فإنه إذا نفي عمن يناسبه، كان نفيه عنه أولى، ثم سلكت هذه الطريقة في شأن من لا مثل له سبحانه. ووجه المبالغة أن الكناية من باب دعوى الشيء ببينة، وقد بينت الكناية في الآية بوجه آخر أشار إليه الشمني ، وهو أنه نفي للشيء بنفي لازمه؛ لأن نفي اللازم يستلزم نفي الملزوم، كما يقال: ليس لأخي زيد أخ. فأخو زيد ملزوم، والأخ لازمه؛ لأنه لا بد لأخي زيد من أخ هو زيد، فنفي هذا اللازم، والمراد نفي ملزومه، أي: ليس لزيد أخ؛ إذ لو كان له أخ لكان لذلك الأخ أخ، هو زيد. فكذا نفي أن يكون لمثل الله مثل، والمراد نفي مثله تعالى. إذ لو كان له مثل، لكان هو تعالى مثل مثله، لتحقق المماثلة من الجانبين.
[ ص: 5226 ] فلا يصح نفي مثله (أي: نفي مثل ذلك المثل) وبالجملة، فأطلق نفي مثل المثل، وأريد لازمه من نفي المثل. قال بعض الأفاضل: طالما كنت أجد في نفسي من هذا شيئا. وذلك أن محصل هذا أن نفي المثل لازم لحقيقة الآية. وقد تقرر أولا أنها تقتضي إثباته. ولذا أولوها بالأوجه المذكورة. فكيف يعقل أن إثبات الشيء ونفيه يلزمان معا لشيء واحد؟ مع تصريحهم بأن تنافي اللوازم يقتضي تنافي الملزومات، وبفرض صحة أن كلا منهما لازم لها، فقصرها على هذا دون ذاك تحكم مع أن القصد إبطال دلالتها على المحال، ولا يكفي فيه قولنا إنه غير مراد كما لا يخفى، ثم ظهر أن إثبات المثل ليس لازما لحقيقة الآية قطعا بل هو محتمل فقط، كما تحتمل نفيه وإن كان الأول أقرب، لكن عارضه في خصوص هذه المادة أنه لو كان له مثل إلخ. فبطل ذلك الاحتمال من أصله فالتعويل في نفي المثل على هذه المقدمة القطعية بخلاف المثال. فافهم ذلك.
وقال العصام : هذا -أي: كون الآية من باب الكناية- وجه تلقاه الفحول بالقبول، ورجحوه بأن الكناية أبلغ من التصريح، وعدم الزيادة أحق بالترجيح، وفيه بحث، وهو أن نفي مثل المثل لا يستلزم نفي المثل; لأن الشيء ليس مثل مثله، بل المثل المشارك للشيء في صفة، مع كون الشيء أقوى منه فيها وبمنزلة الأصل، والمثل بمنزله الملحق به المتقارب منه. انتهى.
ورده السيلكوتي فقال: ما قيل إن نفي مثل المثل لا يستلزم نفي المثل؛ لأن مثل الشيء أضعف منه، فتوهم محض؛ لأن المماثلة هي الشركة في أخص الصفات، والمساواة في جميع الوجوه مما به المماثلة، صرح به في (شرح العقائد النسفية) انتهى.
ومثل هذه اللطائف الأدبية مما تتحلى به أجياد الأفهام، وتتشعب في أودية بدائعه عيون محاسن الكلام.
تنبيه:
قال السيوطي في (الإكليل): في الآية رد على المشبهة، وأنه تعالى ليس بجوهر ولا بجسم، ولا عرض ولا لون ولا حال في مكان ولا زمان. انتهى.
[ ص: 5227 ] وكان حقه أن يتم الاستنباط، فكما أن صدر الآية فيه رد على المشبهة، فكذا تتمتها وهو قوله تعالى: وهو السميع البصير رد على المعطلة، ولذا كان أعدل المذاهب مذهب السلف، فإنهم أثبتوا النصوص بالتنزيه من غير تعطيل ولا تشبيه، وذلك أن المعطلين لم يفهموا من أسماء الله تعالى وصفاته إلا ما هو اللائق بالمخلوق، ثم شرعوا في نفي تلك المفهومات، فجمعوا بين التمثيل والتعطيل، فمثلوا أولا وعطلوا آخرا، فهذا تشبيه وتمثيل منهم، للمفهوم من أسمائه وصفاته تعالى، بالمفهوم من أسماء خلقه وصفاتهم، فعطلوا ما يستحقه سبحانه وتعالى من الأسماء والصفات اللائقة به عز وجل، بخلاف سلف الأمة وأجلاء الأئمة، فإنهم يصفون الله سبحانه وتعالى بما وصف به نفسه وبما وصف به نبيه صلى الله عليه وسلم، من غير تحريف ولا تشبيه، قال تعالى: ليس كمثله شيء وهو السميع البصير فرد على المشبهة بنفي المثلية، ورد على المعطلة بقوله: وهو السميع البصير قال : أهل السنة مجمعون على الحافظ ابن عبد البر ، وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلا أنهم لم يكيفوا شيئا من ذلك، وأما الجهمية والمعتزلة والخوارج ، فكلهم ينكرها ولا يحمل منها شيئا على الحقيقة، ويزعمون أن من أقر بها مشبه، وهم عند من أقر بها نافون للمعبود. انتهى. الإقرار بالصفات الواردة في الكتاب والسنة
قال : صدق والله! فإن من تأول سائر الصفات، وحمل ما ورد منها على مجاز الكلام، أداه ذلك السلب إلى تعطيل الرب وأن يشابه المعدوم، كما نقل عن الذهبي أنه قال: مثل الجهمية كقوم قالوا: في دارنا نخلة، قيل: لها سعف؟ قالوا: لا، قيل: لها كرب؟ قالوا: لا، قيل: لها رطب؟ قالوا: لا، قيل: فلها ساق؟ قالوا: لا، قيل: فما في داركم نخلة. قلت: كذلك هؤلاء النفاة، قالوا: إلهنا الله تعالى; وهو لا في زمان، ولا في مكان، ولا يرى ولا يسمع، ولا يبصر ولا يتكلم، ولا يرضى ولا يريد، ولا ولا، وقالوا: سبحان المنزه عن الصفات. بل نقول: سبحان الله العلي العظيم السميع البصير المريد، الذي كلم حماد بن زيد موسى تكليما، واتخذ إبراهيم خليلا، ويرى في الآخرة، المتصف بما وصف به نفسه، ووصفه به [ ص: 5228 ] رسله، المنزه عن سمات المخلوقين وعن جحد الجاحدين ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
وقال رحمه الله أيضا: مقال متأخري المتكلمين، أن الله تعالى ليس في السماء، ولا على العرش ولا على السموات ولا في الأرض، ولا داخل العالم ولا خارج العالم، ولا هو بائن عن خلقه ولا متصل بهم، وقالوا: جميع هذه الأشياء صفات الأجسام والله تعالى منزه عن الجسم، قال لهم أهل السنة والأثر: نحن لا نخوض في ذلك ونقول ما ذكرناه اتباعا للنصوص ولا نقول بقولكم؛ فإن هذه السلوب نعوت للمعدوم، تعالى الله جل جلاله عن العدم، بل هو موجود متميز عن خلقه، موصوف بما وصف به نفسه، من أنه فوق العرش بلا كيف. انتهى. الذهبي
وقال الإمام ابن تيمية في (الرسالة التدمرية) في القاعدة الأولى: إن ، فالإثبات كإخباره بأنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وأنه سميع بصير ونحو ذلك، والنفي كقوله: الله سبحانه موصوف بالإثبات والنفي لا تأخذه سنة ولا نوم وينبغي أن يعلم أن النفي ليس فيه مدح ولا كمال، إلا إذا تضمن إثباتا، وإلا فمجرد النفي ليس فيه مدح ولا كمال؛ لأن النفي المحض عدم محض، والعدم المحض ليس بشيء، وما ليس بشيء فهو كما قيل ليس بشيء فضلا عن أن يكون مدحا أو كمالا، ولأن النفي المحض يوصف به المعدوم والممتنع، والمعدوم والممتنع لا يوصف بمدح ولا كمال، فلهذا كان عامة ما وصف الله به نفسه من النفي متضمنا لإثبات مدح، كقوله: الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم إلى قوله: ولا يئوده حفظهما فنفي السنة والنوم يتضمن كمال الحياة والقيام، فهو مبين لكمال أنه الحي القيوم، وكذلك قوله: ولا يئوده حفظهما أي لا يكرثه ولا يثقله، وذلك مستلزم لكمال قدرته وتمامها، بخلاف المخلوق القادر، إذا كان يقدر على الشيء بنوع كلفة [ ص: 5229 ] ومشقة، فإن هذا نقص في قدرته وعيب في قوته، وكذلك قوله: لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض فإن نفي العزوب مستلزم لعلمه بكل ذرة في السموات والأرض، وكذلك قوله: ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب فإن نفي مس اللغوب، الذي هو التعب والإعياء دل على كمال القدرة ونهاية القوة، بخلاف المخلوق الذي يلحقه من التعب والكلال ما يلحقه، وكذلك قوله: لا تدركه الأبصار إنما نفي الإدراك الذي هو الإحاطة كما قاله أكثر العلماء، ولم ينف مجرد الرؤية؛ لأن المعدوم لا يرى، وليس في كونه لا يرى مدح؛ إذ لو كان كذلك لكان المعدوم ممدوحا، وإنما المدح في كونه لا محاط به، وإن رئي، كما أنه لا يحاط به وإن علم، فكما أنه إذا علم لا يحاط به علما، فكذلك إذا رئي لا يحاط به رؤية، فكان في نفي الإدراك من إثبات عظمته، ما يكون مدحا وصفة كمال، وكان ذلك دليلا على إثبات الرؤية لا على نفيها، لكنه دليل على إثبات الرؤية مع عدم الإحاطة، وهذا هو الحق الذي اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها، وإذا تأملت ذلك وجدت كل نفي لا يستلزم ثبوتا، هو مما لم يصف الله به نفسه، الذين لا يصفونه إلا بالسلوب، لم يثبتوا في الحقيقة. إلها محمودا، بل ولا موجودا، وكذلك من شاركهم في بعض ذلك، كالذين قالوا: لا يتكلم أو لا يرى أو ليس فوق العالم أو لم يستو على العرش، ويقولون: ليس بداخل العالم ولا خارجه ولا مباين للعالم ولا مجانب له، إذ هذه الصفات يمكن أن يوصف بها المعدوم، وليست هي صفة مستلزمة صفة ثبوت، ولهذا قال محمود بن سبكتكين لمن ادعى ذلك في الخالق: ميز لنا بين هذا الرب الذي نثبته وبين المعدوم، وكذلك كونه لا يتكلم أو لا ينزل، ليس في ذلك صفة مدح ولا كمال، بل هذه الصفات فيها تشبيه له بالمنقوصات أو المعدومات، فهذه الصفات منها ما لا يتصف به إلا المعدوم ومنها ما لا يتصف به إلا الجمادات والناقص، فمن قال لا هو مباين للعالم ولا مداخل للعالم، فهو بمنزلة [ ص: 5230 ] من قال: لا؛ هو قائم بنفسه ولا بغيره ولا قديم ولا محدث ولا متقدم على العالم ولا مقارن له، ومن قال: إنه ليس بحي ولا سميع ولا بصير ولا متكلم، لزمه أن يكون ميتا أصم أعمى أبكم، فإن قال: العمى عدم البصر عما من شأنه أن يقبل البصر، وما لم يقبل البصر كالحائط لا يقال له أعمى ولا بصير، قيل له هذا اصطلاح اصطلحتموه، وإلا فما يوصف بعدم الحياة والسمع والبصر والكلام يمكن وصفه بالموت والعمى والخرس والعجمة، وأيضا فكل موجود يقبل الاتصاف بهذه الأمور ونقائضها؛ فإن كما جعل عصا الله قادر على جعل الجماد حيا موسى حية ابتلعت الحبال والعصي، وأيضا فالذي لا يقبل الاتصاف بهذه الصفات أعظم نقصا مما يقبل الاتصاف مع اتصافه بنقائضها، فالجماد الذي لا يوصف بالبصر ولا العمى ولا الكلام ولا الخرس، أعظم نقصا من الحي الأعمى الأخرس، فإن قيل: إن البارئ لا يمكن اتصافه بذلك، كان في ذلك من وصفه بالنقص أعظم مما إذا وصف بالخرس والعمى والصمم ونحو ذلك، مع أنه إذا جعل غير قابل لها كان تشبيها له بالجماد الذي لا يقبل الاتصاف بواحد منها، وهذا تشبيه بالجمادات لا بالحيوانات، فكيف من قال ذلك على غيره مما يزعم أنه تشبيه بالحي، وأيضا فنفس نفي هذه الصفات نقص، كما أن إثباتها كمال، فالحياة من حيث هي هي، مع قطع النظر عن تعيين الموصوف بها، صفة كمال، وكذلك العلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والعقل ونحو ذلك، وما كان صفة كمال فهو سبحانه أحق أن يتصف به من المخلوقات، فلو لم يتصف به مع اتصاف المخلوق به، لكان المخلوق أكمل منه.