القول في تأويل قوله تعالى:
[ 21 - 23] أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم وإن الظالمين لهم عذاب أليم ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا وهو واقع بهم والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك هو الفضل الكبير ذلك الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ومن يقترف حسنة نـزد له فيها حسنا إن الله غفور شكور .
[ ص: 5237 ] أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله { أم } : منقطعة، فيها معنى (بل والهمزة)، ولا بد من سبق كلام، خبرا أو إنشاء، يضرب عنه ويقرر ما بعده. وما سبق قوله: شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا إلخ فهو معطوف عليه، وما بينهما من تتمة الأول. والمراد بشركائهم، إما شياطينهم لأنهم شاركوهم في الكفر وحملوهم عليه، وإما أوثانهم، وإضافتها إليهم لأنهم متخذوها شركاء وإن لم تكن كذلك في الحقيقة. وعلى الثاني، فإسناد الشرع إليها، لأنها سبب ضلالهم وافتتانهم بما تدينوا به، أو لأنها على صورة المشرع الذي سن هذا الضلال لهم، ويجوز كون الاستفهام المقدر حينئذ للإنكار. أي: ليس لهم شرع ولا شارع. كما في قوله: أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا ولولا كلمة الفصل أي: القضاء السابق بأن . أو لولا ما وعدهم الله به من أنه يفصل بينهم ويبين في الآخرة. فالفصل بمعنى البيان: الجزاء في القيامة لا في الدنيا لقضي بينهم أي: لفرغ من الحكم بين الكافرين والمؤمنين، بتعجيل العذاب للكافرين: وإن الظالمين لهم عذاب أليم ترى الظالمين أي: يوم البعث: مشفقين مما كسبوا أي: من السيئات: وهو واقع بهم أي: نازل بهم لا محالة: والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك هو الفضل الكبير ذلك الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات قل لا أسألكم عليه أجرا أي: لا أسألكم على دعايتكم إلى ما أدعوكم إليه من الحق الذي جئتكم به، والنصيحة التي أنصحكم، ثوابا وجزاء، وعوضا من أموالكم تعطونيه: إلا المودة في القربى أي: أن تودوني في القرابة التي بيني وبينكم، وتصلوا الرحم التي بيننا، ولا يكن غيركم، يا معشر قريش ، أولى بحفظي ونصرتي ومودتي منكم.
قال الشهاب : المودة مصدر مقدر ب: (أن والفعل). والقربى مصدر كالقرابة. و (في) [ ص: 5238 ] للسببية. وهي بمعنى اللام لتقارب السبب والعلة.
والخطاب إما لقريش أو لجميع العرب؛ لأنهم أقرباء في الجملة. انتهى.
والاستثناء منقطع. ومعناه نفي الأجر أصلا; لأن ثمرة مودتهم عائدة إليهم; لكونها سبب نجاتهم. فلا تصلح أن تكون أجرا له. وقيل: المعنى أن تودوا قرابتي الذين هم قرابتكم ولا تؤذوهم. وقيل: القربى التقرب إلى الله تعالى. أي: إلا أن تتوددوا إلى الله فيما يقربكم إليه. والمعنى الأول هو الذي عول عليه الأئمة. ولم يرتض رضي الله عنه، غيره. ففي ابن عباس عنه أنه سئل عن قوله تعالى: البخاري إلا المودة في القربى فقال : القربى آل سعيد بن جبير محمد . فقال : عجلت. إن النبي صلى الله عليه وسلم، لم يكن بطن من ابن عباس قريش إلا كان له فيهم قرابة. فقال: إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة .
قال : انفرد به ابن كثير -أي: عن البخاري - ورواه مسلم . وهكذا روى الإمام أحمد ، الشعبي ، والضحاك وعلي بن أبي طلحة ، ، والعوفي ويوسف بن مهران ، وغير واحد، عن ، رضي الله عنهما، مثله. وبه قال ابن عباس ، مجاهد وعكرمة ، وقتادة ، والسدي وأبو مالك ، وغيرهم. وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم
وروى الحافظ أبو القاسم الطبراني قال: قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا أسألكم عليه أجرا إلا أن تودوني في نفسي، لقرابتي منكم، وتحفظوا القرابة التي بيني وبينكم» ابن عباس . وروى عن عن الإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ابن عباس . وهكذا روي عن «لا أسألكم على ما أتيتكم به من البينات والهدى أجرا، إلا أن تودوا الله تعالى، وأن تقربوا إليه بطاعته» ، قتادة مثله. والحسن البصري
وأما رواية أنها نزلت بالمدينة فيمن فاخر [ ص: 5239 ] من العباس الأنصار ، فإسناده ضعيف. على أن السورة مكية. وليس يظهر بين الآية وتلك الرواية في هذا السياق مناسبة. وكذا ما رواه أنه: ابن أبي حاتم لما نزلت هذه الآية قالوا: يا رسول الله! من هؤلاء الذين أمر الله بمودتهم؟ قال: وولدها رضي الله عنهم» «فاطمة فإن في إسناده مبهما لا يعرف، عن شيخ شيعي، وهو حسين الأشقر ، فلا يقبل خبره في هذا المحل، وذكر نزول الآية في المدينة بعيد؛ فإنها مكية. ولم يكن إذ ذاك رضي الله عنها أولاد بالكلية؛ فإنها لم تتزوج لفاطمة رضي الله عنه إلا بعد بعلي بدر السنة الثانية من الهجرة.
والحق تفسير هذه الآية بما فسرها به حبر الأمة وترجمان القرآن رضي الله عنهما، كما رواه عنه عبد الله بن عباس . ولا ننكر البخاري ، وإكرامهم؛ فإنهم من ذرية طاهرة من أشرف بيت وجد على وجه الأرض، فخرا، وحسبا، ونسبا. ولاسيما إذا كانوا متبعين للسنة النبوية الصحيحة الواضحة الجلية. كما كان عليه سلفهم، الوصاة بأهل البيت، والأمر بالإحسان إليهم، واحترامهم كالعباس وبنيه، وأهل بيته وذريته رضي الله عنهم أجمعين، وقد ثبت في "الصحيح" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته: وعلي . وروى «إني تارك فيكم الثقلين، كتاب الله وعترتي. وإنهما لم يفترقا حتى يردا علي الحوض» الإمام أحمد رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله! إن العباس بن عبد المطلب قريشا إذا لقي بعضهم بعضا لقوهم ببشر حسن، وإذا لقونا، لقونا بوجوه لا نعرفها. قال فغضب النبي صلى الله عليه وسلم غضبا شديدا وقال: «والذي نفسي بيده! لا يدخل قلب الرجل الإيمان حتى يحبكم لله ولرسوله» . هذا ملخص ما أورده عن رحمه الله تعالى، وسبقه في الإيساع في ذلك ابن كثير تقي الدين ابن تيمية في (منهاج السنة) من أوجه عديدة.
قال في الوجه الثالث: إن هذه الآية في سورة الشورى. وهي مكية باتفاق أهل السنة.
[ ص: 5240 ] بل جميع آل حم مكيات. وكذلك آل طس. ومن المعلوم أن إنما تزوج فاطمة عليا بالمدينة بعد غزوة بدر . ولد في السنة الثالثة من الهجرة. والحسن في السنة الرابعة فتكون هذه الآية قد نزلت قبل وجود والحسين الحسن بسنين متعددة. فكيف يفسر النبي صلى الله عليه وسلم الآية بوجوب مودة قرابة لا تعرف ولم تخلق. والحسين
ثم قال: الوجه الرابع- إن تفسير الآية الذي في الصحيحين عن يناقض ذلك. فهذا ابن عباس ترجمان القرآن وأعلم أهل البيت، بعد ابن عباس ، يقول: ليس معناها مودة ذوي القربى. ولكن معناها لا أسألكم يا معشر العرب، ويا معشر علي قريش عليه أجرا، لكن أسألكم أن تصلوا القرابة التي بيني وبينكم. فهو سأل الناس الذين أرسل إليهم أولا، أن يصلوا رحمه فلا يعتدوا عليه حتى يبلغ رسالة ربه.
الوجه الخامس: أنه قال: لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى لم يقل: إلا المودة للقربى ولا المودة لذوي القربى. فلو أراد المودة لذوي القربى لقال: المودة لذوي القربى كما قال: واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى وقال: ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى وكذلك قوله: وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل وقوله: وآتى المال على حبه ذوي القربى وهكذا في غير موضع. فجميع ما في القرآن من ، إنما قيل فيها: (ذوي القربى). لم يقل: (في القربى). فلما ذكر هنا المصدر دون الاسم، دل على أنه لم يرد (ذوي القربى). التوصية بحقوق ذوي قربى النبي صلى الله عليه وسلم، وذوي قربى الإنسان
الوجه السادس: أنه لو أريد المودة لهم لقال: المودة لذوي القربى، ولم يقل: في القربى، فإنه لا يقول من طلب المودة لغيره: أسألك المودة في فلان، ولا في قربى فلان. ولكن أسألك المودة لفلان، والمحبة لفلان. فلما قال المودة في القربى، علم أنه ليس المراد لذوي القربى.
[ ص: 5241 ] الوجه السابع: أن يقال إن النبي صلى الله عليه وسلم لا يسأل على تبليغ رسالة ربه أجرا البتة. بل أجره على الله كما قال: قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين وقوله: أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون وقوله: قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله ولكن الاستثناء هنا منقطع، كما قال: قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا ولا ريب أن . لكن لم يثبت وجوبها بهذه الآية، ولا محبتهم أجر للنبي صلى الله عليه وسلم. بل هو مما أمرنا الله به كما أمرنا بسائر العبادات. وفي "الصحيح" عنه أنه محبة أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم واجبة مكة والمدينة فقال: «أذكركم الله في أهل بيتي» وفي "السنن" عنه أنه قال: خطب أصحابه بغدير يدعى (خما) بين فمن جعل محبة أهل بيته أجرا له يوفيه إياه، فقد أخطأ خطأ عظيما. ولو كان أجرا له [ لم] نثب عليه نحن; لأنا أعطيناه أجره الذي يستحقه بالرسالة. فهل يقول مسلم مثل هذا؟. «والذي نفسي بيده! لا يدخلون الجنة حتى يحبوكم لله ولقرابتي»
الوجه الثامن: إن (القربى) معرفة باللام. فلا بد أن يكون معروفا عند المخاطبين الذين أمر أن يقول لهم: " لا أسألكم عليه أجرا " وقد ذكر أنها لما نزلت، لم يكن قد خلق الحسن ، ولا تزوج والحسين علي . فالقربى التي كان المخاطبون يعرفونها، يمتنع أن تكون هذه. بخلاف القربى التي بينه وبينهم، فإنها معروفة عندهم، كما تقول: (لا أسألك إلا المودة في الرحم التي بيننا). وكما تقول: (لا أسألك إلا العدل بيننا وبينكم). و (لا أسألك إلا أن تتقي الله في هذا الأمر). انتهى بفاطمة
[ ص: 5242 ] ومن يقترف حسنة أي: يكتسب طاعة: نـزد له فيها حسنا أي: بمضاعفته: إن الله غفور أي: لمن تاب وأناب: شكور لسعيهم بتضعيف جزاء حسناته.