[ ص: 5394 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الفتح
سميت به لدلالتها على فتح البلاد والحجج والمعجزات والحقائق، وقد ترتب على كل واحد منها المغفرة وإتمام النعمة والهداية والنصر العزيز. وكل هذه أمور جليلة -إفادة المهايمي-.
وآيها تسع وعشرون، وهي مدنية. نزلت مرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية سنة ست من الهجرة، عدة له بالفتح. قال لما رجعنا من أنس: الحديبية، وقد حيل بيننا وبين نسكنا، فنحن بين الحزن والكآبة، فنزلت. واختلف في المكان الذي نزلت فيه، فوقع عند محمد بن سعد ( بضجنان ) وهي بفتح المعجمة وسكون الجيم ونون خفيفة. وعند في -الإكليل- الحاكم بكراع الغميم . وعن أبي معشر ( بالجحفة ).
قال الحافظ ابن حجر: والأماكن الثلاثة متقاربة.
وروى البخاري لقد أنزلت علي الليلة سورة، لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس. لعمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال -وهو في بعض أسفاره-
وأخرج أيضا عن قال: عبد الله بن مغفل مكة سورة الفتح، فرجع فيها [ ص: 5395 ] بسم الله الرحمن الرحيم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح
القول في تأويل قوله تعالى:
[1] إنا فتحنا لك فتحا مبينا .
إنا فتحنا لك فتحا مبينا قال الرازي: في الفتح وجوه:
أحدها - فتح مكة، وهو ظاهر.
وثانيها -فتح الروم وغيرها.
وثالثها -المراد من الفتح، صلح الحديبية.
ورابعها -فتح الإسلام بالحجة والبرهان، والسيف والسنان.
وخامسها -المراد منه الحكم، كقوله: ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وقوله: ثم يفتح بيننا بالحق انتهى.
ولا يخفى أن الوجوه المذكورة كلها، مما يصدق عليها الفتح الرباني، وجميعها مما تحقق مصداقه. إلا أن سبب نزول الآية، الذي حفظ الثقات زمنه، يبين المراد من الفتح بيانا لا خلاف معه، وهو أنه الوجه الثالث المذكور.
قال الإمام : نزلت هذه السورة الكريمة لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من ابن كثير الحديبية ، في ذي القعدة من سنة ست من الهجرة، حين صده المشركون عن الوصول إلى المسجد الحرام، ليقضي عمرته فيه، وحالوا بينه وبين ذلك، ثم مالوا إلى المصالحة والمهادنة، وأن يرجع عامه هذا، ثم يأتي من قابل، فأجابهم إلى ذلك، على تكره من جماعة من الصحابة، منهم رضي الله عنهم كما سيأتي تفصيله في موضعه من تفسير هذه السورة إن شاء الله تعالى. فلما نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم هديه حيث أحصر ورجع، أنزل الله عز وجل [ ص: 5396 ] هذه السورة، فيما كان من أمره وأمرهم، وجعل ذلك الصلح فتحا، باعتبار ما فيه من المصلحة، وما آل الأمر إليه، كما روي عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه وغيره أنه قال: إنكم تعدون الفتح فتح ابن مسعود مكة، ونحن نعد الفتح وعن صلح الحديبية. رضي الله عنه قال: ما كنا نعد الفتح إلا يوم جابر الحديبية. روى عن البخاري رضي الله عنه قال: تعدون أنتم الفتح فتح البراء مكة، وقد كان فتح مكة فتحا، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان، يوم الحديبية.
وروى عن الإمام أحمد قال: أنس بن مالك ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر مرجعه من الحديبية . قال النبي صلى الله عليه وسلم: « لقد أنزلت علي آية أحب إلي مما على الأرض » ، ثم قرأها عليهم النبي صلى الله عليه وسلم - أخرجاه في (الصحيحين) من رواية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم: به -. قتادة
وروى عن الإمام أحمد مجمع بن جارية الأنصاري رضي الله عنه -وكان أحد القراء الذين قرأوا القرآن- قال: إنا فتحنا لك فتحا مبينا
قال، فقال رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي رسول الله! أو فتح هو؟ قال صلى الله عليه وسلم: أي والذي نفس محمد بيده! إنه لفتح. ورواه شهدنا الحديبية، فلما انصرفنا عنها، إذا الناس، ينفرون الأباعر. فقال الناس بعضهم لبعض: ما للناس؟ قالوا: أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرجنا مع الناس نرجف، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته عند كراع الغميم، فاجتمع الناس عليه، فقرأ عليهم: في الجهاد. أبو داود
ثم قال : فالمراد بقوله: ابن كثير إنا فتحنا لك فتحا مبينا -أي: بينا ظاهرا- هو صلح الحديبية، فإنه حصل بسببه خير جزيل، وأمن الناس، واجتمع بعضهم ببعض، وتكلم المؤمن مع الكافر، وانتشر العلم النافع والإيمان. انتهى.
[ ص: 5397 ] وقال الإمام ابن القيم في (زاد المعاد) في الكلام على ما في غزوة الحديبية من الفقه واللطائف، ما مثاله: كان صلح الحديبية مقدمة وتوطئة بين يدي هذا الفتح العظيم، أمن الناس به، وكلم بعضهم بعضا، وناظره في الإسلام، وتمكن من اختفى من المسلمين بمكة من إظهار دينه، والدعوة إليه، والمناظرة عليه، ودخل بسببه بشر كثير في الإسلام؛ ولهذا سماه الله فتحا في قوله: إنا فتحنا لك فتحا مبينا نزلت في الحديبية ، فقال : يا رسول الله! أو فتح هو؟ قال: نعم. وأعاد سبحانه ذكر كون ذلك فتحا قريبا. وهذا شأنه سبحانه أن يقدم بين يدي الأمور العظيمة مقدمات تكون كالمدخل إليها، المنبئة لها وعليها، كما قدم بين يدي قصة عمر المسيح ، وخلقه من غير أب، قصة زكريا ، وخلق الولد له، مع كونه كبيرا، لا يولد لمثله. وكما قدم بين يدي نسخ القبلة، قصة البيت، وبنائه، وتعظيمه، والتنويه به، وذكر بانيه، وتعظيمه ومدحه. ووطأ قبل ذلك كله بذكر النسخ، وحكمته المقتضية له، وقدرته الشاملة له. وهكذا ما قدم بين يدي مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من قصة الفيل، وبشارات الكهان به، وغير ذلك. وكذلك الرؤيا الصالحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم كانت مقدمة بين يدي الوحي في اليقظة. وكذلك الهجرة، كانت مقدمة بين يدي الأمر بالجهاد. ومن تأمل أسرار الشرع والقدر، رأى من ذلك ما تبهر حكمته أولي الألباب. انتهى. وقوله تعالى: