القول في تأويل قوله تعالى:
[5] عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكارا
عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات أي: خاضعات لله بالطاعة مؤمنات أي: مصدقات بالله ورسوله قانتات أي: مطيعات لما يؤمرن به تائبات أي: من الذنوب لا يصررن عليها عابدات أي: متعبدات لله، كأن العبادة امتزجت بقلوبهن، حتى صارت ملكة لهن سائحات قيل: معناه صائمات، وسننبه على ما فيه ثيبات وأبكارا
اعلم أن في توصيف المبدلات بهذه الصفات، تعريضا بوجوب اتصاف الأزواج بها، لا سيما أزواج النبي صلى الله عليه وسلم.
تنبيه:
ذهب كثير من المفسرين إلى أن المراد من سائحات صائمات أو مهاجرات. وقد قدمنا في سورة التوبة في تفسير السائحون أن الحق فيه هو المعنى الحقيقي لعدم ما يمنع منه، ولا يصار إلى المجاز إلا لمانع. ولذا قال بعض المحققين: إنه يستفاد من هذه الآية مشروعية السياحة للنساء، كما هي كذلك للرجال. فمعنى قوله تعالى: سائحات مسافرات، سواء كان السفر لهجرة أو اطلاع على آثار الأمم البائدة. وقد خصصت السنة عموم سفرهن بكونه مع زوج أو محرم له، حفظا لهن.
[ ص: 5865 ] ثم قال: كأن الذي دعا البعض لتفسير سائحات بالصائمات، أو بخصوص المهاجرات، تصوره أن السياحة في البلاد لا تناسب طبيعة النساء المأمورات بالحجاب، وكأنه يفهم من الحجاب أنه الحبس المؤبد، أو كأن الهواء نعمة مخصوصة بغير النساء، أو كأنهن لم يخلقن إلا لسجون البيوت التي ربما تكون أنكى من أعمق سجون الجناة، أو كأنهن لم يخلق لهن من هذه الدنيا الرحيبة سوى بيت واحد؟! وأما قوله تعالى:
خلق لكم ما في الأرض جميعا فكأنه مخصوص بالرجل، أو كأن الآيات الآمرة بالسير للنظر والعبرة والإحاطة والخبرة، نازلة من السماء ليس للأمة جميعا، بل للنصف منها، وهو الرجال. وحاشا أن يكون ذلك! أين هديه صلى الله عليه وسلم في سفره مع أزواجه؟ فقد «كان يقرع بينهن» ، فأيتهن خرجت قرعتها خرج بها، وسافرت معه. وقد صار ذلك شريعة معمولا بها في الدين. وهكذا صح أنه صلى الله عليه وسلم أردفها خلفه وهو مع الركب» بصفية . «لما قدم
وبالجملة فالسياحة في القرآن الكريم ليست ترمي إلى غاية واحدة، بل إلى عدة غايات وفوائد:
أولا: إدراك المعقولات، والإحاطة بعظات المسموعات، كما نتعلمه من آية: أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور
ثانيا: الوقوف على أحوال الأمم البائدة، وما لهم من جليل الآثار الداعية للاعتبار، كما نتعلمه من قول الكتاب الحكيم:
أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وآثارا في الأرض فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق
[ ص: 5866 ] وقوله: أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون
ثالثا: البحث والتنقيب في أنحاء المسكونة بالنظر في الكون، وفي الفنون، للوصول إلى معرفة مبدع هذا العالم تعالى، كما يحثنا الكتاب الكريم على تسنم هذا المرتقى العالي بقوله: قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق
رابعا: الحصول على ربح التجارة كما نتعلم ذلك من قول الكتاب الكريم: وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله
فهل ترى هذه الفوائد ذات البال مختصة بالرجل دون الأنثى، حتى يكون السير خاصا بالرجل؟ كلا! وقد امتن الله على أهل سبأ بما حكاه بقوله:
وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياما آمنين وامتن على جميع عباده بقوله: هو الذي يسيركم في البر والبحر وقال تعالى: متاعا لكم وللسيارة فهل يجوز أن نذهب إلى أن هذه المنن هي من مخصوصات الرجل دون النساء؟ كلا! بل الكل مغمور بهذه المنات، كما هو مقتضى عموم الآيات. انتهى ملخصا.