القول في تأويل قوله تعالى : 
[ 104 ] ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون   
ولتكن منكم أمة  أي : جماعة ، سميت بذلك لأنها يؤمها فرق الناس ، أي يقصدونها ويقتدون بها : يدعون إلى الخير  وهو ما فيه صلاح ديني ودنيوي : ويأمرون بالمعروف  أي : بكل معروف ، من واجب ومندوب يقربهم إلى الجنة ويبعدهم عن النار : وينهون عن المنكر  أي : عن كل منكر ، من حرام ومكروه يقربهم إلى النار ويبعدهم من الجنة : وأولئك  الداعون الآمرون الناهون : هم المفلحون  الفائزون بأجور أعمالهم وأعمال من تبعهم . 
قال بعضهم : الفلاح : هو الظفر وإدراك البغية . فالدنيوي هو إدراك السعادة التي تطيب بها الحياة ، والأخروي أربعة أشياء : بقاء بلا فناء ، وعز بلا ذل ، وغنى بلا فقر ، وعلم بلا جهل . 
لطيفة : 
قيل : عطف : ويأمرون  على ما قبله ، من عطف الخاص على العام . كذا قاله  الزمخشري   . وناقشه في ( الانتصاف ) . وعبارته : عطف الخاص على العام يؤذن بمزيد اعتناء بالخاص لا محالة إذا اقتصر على بعض متناولات العام ، كقوله : من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال  وكقوله : فيهما فاكهة ونخل ورمان  وكقوله : حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى  وشبه ذلك ، لأن الاقتصار على تخصيص ما يفرد بالذكر  [ ص: 921 ] يفيده تمييزا عن غيره من بقية المتناولات . وأما هذه الآية فقد ذكر ، بعد العام فيها جميع ما يتناوله ، إذ الخير المدعو إليه إما فعل مأمور ، أو ترك منهي ، لا يعدو واحدا من هذين حتى يكون تخصيصها يميزها عن بقية المتناولات ، فالأولى في ذلك أن يقال : فائدة هذا التخصيص ذكر الدعاء إلى الخير عاما ثم مفصلا . وفيه تنبيه : أن الذكر على وجهين ما لا يخفى من العناية - والله أعلم - إلا أن يثبت عرف يخص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ببعض أنواع الخير ، فإذ ذاك يتم مراد  الزمخشري ،  وما أرى هذا العرف ثانيا - والله أعلم - انتهى . 
تنبيه : 
وفي الآية دليل على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر  ، ووجوبه ثابت بالكتاب والسنة ، وهو من أعظم واجبات الشريعة المطهرة ، وأصل عظيم من أصولها ، وركن مشيد من أركانها ، وبه يكمل نظامها ويرتفع سنامها - كذا في ( فتح البيان ) . 
قال  الغزالي   - رضي الله عنه - : في هذه الآية بيان الإيجاب . فإن قوله تعالى : ولتكن  أمر . وظاهر الأمر الإيجاب ، وفيها بيان أن الفلاح منوط به ، إذ حصر وقال : وأولئك هم المفلحون  وفيها بيان أنه فرض كفاية لا فرض عين ، وأنه إذا قام به أمة سقط الفرض عن الآخرين ؛ إذ لم يقل : كونوا كلكم آمرين بالمعروف . بل قال : ولتكن منكم أمة  فإذا ، مهما قام به واحد أو جماعة سقط الحرج عن الآخرين ، واختص الفلاح بالقائمين به المباشرين . وإن تقاعد عنه الخلق أجمعون ، عم الحرج كافة القادرين عليه لا محالة . انتهى . 
فإن قلت : فمن يباشره ؟ فالجواب : كل مسلم تمكن منه ولم يغلب على ظنه أنه إن أنكر لحقته مضرة عظيمة ، أو إن نهيه لا يؤثر ، لأنه عبث ، إلا أنه يستحب لإظهار شعار الإسلام ، وتذكير الناس بأمر الدين . فإن قلت : فمن يؤمر وينهى ؟ قلت : كل مكلف ، وغير المكلف ، إذا هم بضرر غيره منع ، كالصبيان والمجانين ، وينهى الصبيان عن المحرمات حتى لا يتعودوها ، كما يؤخذون بالصلاة ليمرنوا عليها - ذكره  الزمخشري   - . 
 [ ص: 922 ] وتفصيل هذا البحث في ( الإحياء )  للغزالي  قدس سره ، وقد قال - قدس سره - في طليعة ذلك البحث ما نصه : إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، هو القطب الأعظم في الدين ، وهو المهم الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين ، ولو طوي بساطه وأهمل عمله لتعطلت النبوة ، واضمحلت الديانة ، وعمت الفترة ، وفشت الضلالة ، وشاعت الجهالة ، واستشرى الفساد ، واتسع الخرق ، وخربت البلاد ، وهلك العباد ، وإن لم يشعروا بالهلاك إلا يوم التناد ، وقد كان الذي خفنا أن يكون ، إنا لله وإنا إليه راجعون ، إذ قد اندرس من هذا القطب عمله وعلمه ، وانمحى بالكلية حقيقته ورسمه ، واستولت على القلوب مداهنة الخلق ، وانمحت عنها مراقبة الخالق ، واسترسل الناس في اتباع الهوى والشهوات استرسال البهائم ، وعز على بساط الأرض مؤمن صادق لا تأخذه في الله لومة لائم ، فمن سعى في تلافي هذه الفترة ، وسد هذه الثلمة ، إما متكفلا بعملها ، أو متقلدا لتنفيذها ، مجددا لهذه السنة الداثرة ، ناهضا بأعبائها ، ومتشمرا في إحيائها - كان مستأثرا من بين الخلق بإحياء سنة أفضى الزمان إلى إماتتها ، ومستبدا بقربة تتضاءل درجات القرب دون ذروتها - انتهى - . 
				
						
						
