تنبيه: في مسائل تتعلق بالآية:
الأولى: ذهب الجمهور إلى أن الآية عني بها ، وإن معنى قوله تعالى: تشريع صلاة السفر أن تقصروا من الصلاة هو قصر الكمية، وذلك بأن تجعل الرباعية ثنائية، قالوا: وحكمها لمسافر في حال الأمن كحكمها في حال الخوف لتظاهر السنن على مشروعيتها مطلقا.
روى الترمذي والنسائي ، عن وابن أبي شيبة ابن عباس مكة لا يخاف إلا رب العالمين، فصلى ركعتين. أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج من المدينة إلى
وروى وبقية الجماعة عن البخاري حارثة بن وهب قال: بمنى ركعتين . صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آمن ما كان
وروى والبقية عن البخاري قال: أنس المدينة إلى مكة ، فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة ، قلت: أقمتم بمكة شيئا ؟ قال: أقمنا بها عشرا. خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من
وحينئذ فقوله تعالى: إن خفتم خرج مخرج الغالب حال نزول الآية؛ إذ كانت أسفارهم بعد الهجرة في مبدئها مخوفة، بل ما كانوا ينهضون إلا إلى غزو عام، أو سرية خاصة، وسائر الأحياء حرب للإسلام وأهله، والمنطوق إذا خرج مخرج الغالب [ ص: 1503 ] فلا مفهوم له كقوله: ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا [النور: من الآية 33] وكقوله تعالى: وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم [النساء: 23] الآية.
قالوا: ويدل على أن المراد بالآية صلاة السفر ما رواه الإمام أحمد وأهل السنن، عن ومسلم قال: يعلى بن أمية ، قلت له: قوله تعالى: عمر بن الخطاب فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا وقد أمن الناس؟ فقال لي - رضي الله عنه -: عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال: صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته عمر . سألت
وروى ، عن أبو بكر بن أبي شيبة أبي حنظلة الحذاء قال: إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ونحن آمنون فقال: سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. سألت ابن عمر عن صلاة السفر؟ [ ص: 1504 ] فقال: ركعتان، فقلت: أين قوله:
وروى عن ابن مردويه، أبي الوداك قال: سألت عن ركعتين في السفر؟ فقال: هي رخصة نزلت من السماء فإن شئتم فردوها. ابن عمر
قالوا: فهذا يدل على أن القصر المذكور في الآية هو القصر في عدد الركعات، وإن ذلك كان مفهوما عندهم من معنى الآية. قالوا: ومما يدل على أن لفظ (القصر) كان مخصوصا في عرفهم بنقص عدد الركعات، ولهذا المعنى لما صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الظهر ركعتين، قال له ذو اليدين: أقصرت الصلاة أم نسيت؟
هذا، وذهب كثير من السلف، منهم مجاهد والضحاك إلى أن هذه الآية نزلت في صلاة الخوف، وأن المعني بالقصر هو قصر الكيفية لا الكمية؛ لأن عندهم كمية صلاة المسافر ركعتان، فهي تمام غير قصر، كما قاله والسدي عمر وابن عباس - رضي الله عنهم - قالوا: ولهذا قال تعالى: وعائشة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا وقال تعالى بعدها: وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة الآية، فبين المقصود من القصر ههنا، وذكر صفته وكيفيته، ولهذا لما عقد : (كتاب صلاة الخوف) صدره بقوله تعالى: البخاري وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إلى قوله: أعد للكافرين عذابا مهينا
وهكذا قال جويبر ، عن في قوله: الضحاك فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة قال: ذاك عند القتال، يصلي الرجل الراكب تكبيرتين حيث كان وجهه.
وقال [ ص: 1505 ] أسباط، عن في هذه الآية: إن الصلاة إذا صليت ركعتين في السفر فهي تمام التقصير، لا يحل إلا أن يخاف من الذين كفروا أن يفتنوه عن الصلاة فالتقصير ركعة. السدي
وقال ، عن ابن أبي نجيح : مجاهد فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة يوم كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بعسفان ، والمشركون بضجنان فتوافقوا، فصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بأصحابه صلاة الظهر أربع ركعات، بركوعهم وسجودهم وقيامهم معا جميعا، فهم بهم المشركون أن يغيروا على أمتعتهم وأثقالهم، روى ذلك . ابن أبي حاتم
ورواه ، عن ابن جرير مجاهد ، وعن والسدي ، جابر ، واختار ذلك أيضا، فإنه قال - بعدما حكاه من الأقوال في ذلك -: وهو الصواب. وابن عمر
ثم روي عن أمية أنه قال إنا نجد في كتاب الله قصر صلاة الخوف ولا نجد قصر صلاة المسافر: فقال عبد الله: إنا وجدنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - يعمل عملا عملنا به لعبد الله بن عمر: ، فقد سمى صلاة الخوف مقصورة، وحمل الآية عليها، لا على قصر صلاة المسافر، وأقره على ذلك، واحتج على قصر الصلاة في السفر بفعل الشارع، لا بنص القرآن. ابن عمر
وأصرح من هذا ما رواه أيضا عن سماك الحنفي قال: سألت عن صلاة السفر؟ فقال: ركعتان تمام غير قصر، إنما القصر في صلاة المخافة، فقلت: وما ابن عمر ؟ فقال: يصلي الإمام بطائفة ركعة، ثم يجيء هؤلاء إلى مكان هؤلاء، ويجيء هؤلاء إلى مكان هؤلاء، فيصلي بهم ركعة، فيكون للإمام ركعتان، ولكل طائفة ركعة ركعة. صلاة المخافة
هذا ما نقله ، وهو موافق لما نقله بعض مفسري الزيدية عن الهادوية والقاسمة أن الآية واردة في صلاة الخوف، وأن المراد بالقصر في الآية قصر الصفة، بمعنى أن المأموم يقصر ائتمامه فيأتم بركعة، ويصلي منفردا في ركعة. انتهى. ابن كثير
[ ص: 1506 ] قال العلامة أبو السعود : إن هذه الآية الكريمة مجملة في حق مقدار القصر وكيفيته، وفي حق ما يتعلق به من الصلوات، وفي مقدار مدة الضرب الذي نيط به القصر، فكل ما ورد عنه - صلى الله عليه وسلم - من القصر في حال الأمن، وتخصيصه بالرباعيات على وجه التنصيف، وبالضرب في المدة المعينة - بيان لإجمال الكتاب.
المسألة الثانية: ؟ قلنا: في هذا مذاهب أربعة: إذا حمل القصر على قصر العدد، وأن الرباعية تكون ركعتين، فما حكم هذا القصر
الأول: أن القصر رخصة والإتمام أفضل.
الثاني: أنه حتم.
الثالث: أنه سنة غير حتم.
الرابع: أنه مخير كما يخير في الكفارات، وأنهما - أعني القصر والإتمام - واجبان.
وهناك بيان متعلق بهذه المذاهب:
تعلق أهل القول الأول بقوله تعالى: فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة وهذه الكلمة تستعمل فيما هو مباح جائز، لا فيما هو فرض، نحو: فلا جناح عليهما أن يتراجعا [البقرة: من الآية 230] و لا جناح عليكم إن طلقتم النساء [البقرة: من الآية 236]: فلا جناح عليهما فيما افتدت به [البقرة: من الآية 229] إن قيل: قد يستعمل ذلك في الواجب [ ص: 1507 ] مثل: فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما [البقرة: من الآية 158] أجابوا بأن ذلك على سبيل المجاز.
ومن جهة السنة ما روي عن قالت: عائشة المدينة إلى مكة حتى إذا قدمت مكة ، قلت: يا رسول الله - بأبي أنت وأمي - قصرت وأتممت وصمت وأفطرت؟ فقال: أحسنت يا وما عاب علي، وكان عائشة يقصر ويتم. عثمان اعتمرت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - من
ومن جهة المعنى أن المعقول والمفهوم من لفظ (القصر) إنما هو الرخصة لأجل مشقة المسافر، كما رخص له في الإفطار، وفي الحديث: . تلك صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته
تعلق أهل المذهب الثاني بأن قالوا: حملنا لفظ الجناح على الفرض - وإن كان مجازا - لما روي عن قال: فرضت الصلاة في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين. ابن عباس
وعن عمر: صلاة الجمعة ركعتان وصلاة السفر ركعتان، تمام غير قصر، على لسان نبيكم، وكانت صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أسفاره ركعتين، وأقام بمكة ثمانية عشر يوما يقصر ويقول: أتموا، يا أهل مكة ! فإنا قوم سفر .
وعن : من أتم في السفر فقد رغب عن ملة الشعبي إبراهيم.
وروي أن أتم الصلاة بمنى، فأنكر عليه عثمان وقال: صليت خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتين، وخلف عبد الله بن مسعود، ركعتين منفصلتين، فاعتذر أبا بكر بضروب من الأعذار عثمان ، منها أنه قد تأهل، وقيل: أتم لأن مذهبه أن القصر لمن لم يكن له زاد ولا راحلة، وهو مذهب فيكون قولنا: قصرت [ ص: 1508 ] الصلاة مجازا؛ لأنها تامة إذا نقص من الأربع، ويقولون: هذه الأخبار تعارض ما يفهم من معقولية التسهيل. سعد بن أبي وقاص،
ومتعلق أهل القول الثالث والرابع بالجمع بين الروايات، وسائر الوجوه التي تعلق بها أهل القولين الأولين، فكان واجبا مخيرا، ومن قال: إنه سنة فلأن المشهور عنه - صلى الله عليه وسلم - القصر في الأسفار، كذا في تفسير بعض الزيدية.
أقول: حديث المذكور رواه عائشة النسائي والدارقطني ، واختلف قول والبيهقي فيه، فقال في "السنن": إسناده حسن، وقال في "العلل": المرسل أشبه، وقال الدارقطني ابن حزم: هذا حديث لا خير فيه، وطعن فيه، وقال ابن النحوي "في البدر المنير": في متن هذا الحديث نكارة، وهو كون خرجت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في عمرة رمضان، والمشهور أن عمره كلهن في ذي القعدة، وأطال في ذلك. عائشة
وقال الإمام ابن القيم في "زاد المعاد": وكان - صلى الله عليه وسلم - إلى يقصر الرباعية، فيصليها ركعتين من حين خرج مسافرا إلى أن يرجع المدينة ، ولم يثبت عنه أنه أتم الرباعية في سفره البتة، وأما حديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقصر في السفر ويتم، ويفطر ويصوم فلا يصح، وسمعت شيخ الإسلام عائشة ابن تيمية يقول: هو كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى.
وقد روي (كان يقصر وتتم) الأول بالياء آخر الحروف، والثاني بالتاء المثناة من فوق، وكذلك (يفطر وتصوم) أي: تأخذ هي بالعزيمة في الموضعين.
قال شيخنا ابن تيمية: وهذا باطل: ما كانت أم المؤمنين لتخالف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجميع أصحابه، فتصلي خلاف صلاتهم، كيف؟ والصحيح عنها فلما هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أن الله فرض الصلاة ركعتين ركعتين، المدينة زيدت في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر، فكيف يظن بها - مع ذلك - أن تصلي بخلاف صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين معه؟.
[ ص: 1509 ] ثم قال ابن القيم : قلت: وقد أتمت بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - قال عائشة وغيره: إنها تأولت كما تأول ابن عباس ، وإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقصر دائما، فركب بعض الرواة من الحديثين حديثا وقال: فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقصر وتتم هي، فغلط بعض الرواة فقال: كان يقصر ويتم، أي: هو. عثمان
والتأويل الذي تأولته قد اختلف فيه، فقيل: ظنت أن القصر مشروط بالخوف والسفر، فإذا زال سبب الخوف زال سبب القصر، وهذا التأويل غير صحيح، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - سافر آمنا، وكان يقصر الصلاة، والآية قد أشكلت على - رضي الله عنه - وغيره، فسأل عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأجابه بالشفاء، وأن هذا صدقة من الله وشرع شرعه للأمة، وكان هذا بيان أن حكم المفهوم غير مراد، وأن الجناح مرتفع في قصر الصلاة عن الآمن والخائف، وغايته أنه نوع تخصيص للمفهوم، أو رفع له. عمر
وقد يقال: إن الآية اقتضت قصرا يتناول الأركان بالتخفيف، وقصر العدد بنقصان ركعتين، وقيد ذلك بأمرين: الضرب في الأرض والخوف، فإذا وجد الأمران أبيح القصر، فيصلون صلاة تامة كاملة، وإن وجد أحد السببين ترتب عليه قصره وحده، فإذا وجد الخوف والإقامة قصرت الأركان واستوفي العدد، وهذا نوع قصر وليس بالقصر المطلق، وقد تسمى هذه الصلاة مقصورة باعتبار نقصان العدد، وقد تسمى تامة باعتبار إتمام أركانها، وأنها لم تدخل في قصر الآية، والأول اصطلاح كثير من الفقهاء المتأخرين، والثاني يدل عليه كلام الصحابة، كعائشة وغيرهما. وابن عباس
قالت : عائشة ، فهذا يدل على أن صلاة السفر عندها غير مقصورة من أربع، وإنما هي مفروضة كذلك، وأن فرض المسلم ركعتان. فرضت الصلاة ركعتين، فلما هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة زيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر
وقال : ابن عباس متفق على [ ص: 1510 ] حديث فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعا، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة، ، وانفرد عائشة بحديث مسلم . ابن عباس
وقال : عمر بن الخطاب محمد - صلى الله عليه وسلم - وقد خاب من افترى ، وهذا ثابت صلاة السفر ركعتان، والجمعة ركعتان، والعيد ركعتان، تمام غير قصر على لسان - رضي الله عنه - وهو الذي سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما بالنا نقصر وقد أمنا؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته عمر ولا تناقض بين حديثيه؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أجابه بأن هذه صدقة الله عليكم، ودينه اليسر السمح، علم عن أنه ليس المراد من الآية قصر العدد، كما فهمه كثير من الناس، فقال: صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر، وعلى هذا فلا دلالة في الآية على أن قصر العدد مباح، منفي عنه الجناح، فإن شاء المصلي فعله وإن شاء أتم، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يواظب في سفره على ركعتين ركعتين، ولم يربع قط إلا شيئا فعله في بعض صلاة الخوف، كما سنذكره هناك، ونبين ما فيه إن شاء الله تعالى. عمر
وقال أنس: المدينة إلى مكة ، وكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة ، متفق عليه. خرجت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من
أن عبد الله بن مسعود صلى عثمان بن عفان بمنى أربع ركعات - قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنى ركعتين، وصليت مع أبي بكر بمنى [ ص: 1511 ] ركعتين، وصليت مع ركعتين، فليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان. عمر متفق عليه. ولما بلغ
ولم يكن ليسترجع من فعل ابن مسعود أحد الجائزين المخير بينهما، بلى الأولى على قول، وإنما استرجع لما شاهده من مداومة النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه على ركعتين. عثمان
وفي صحيح عن البخاري، - رضي الله عنه - قال: ابن عمر وأبا بكر وعمر يعني في صدر خلافة وعثمان - وإلا عثمان - قد أتم في آخر خلافته، فعثمان وكان ذلك أحد الأسباب التي نكرت عليه، وقد خرج لفعله تأويلات: صحبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان في السفر لا يزيد على ركعتين،
أحدها: أن الأعراب كانوا قد حجوا تلك السنة، فأراد أن يعلمهم أن فرض الصلاة أربع؛ لئلا يتوهموا أنها ركعتان في الحضر والسفر، ورد هذا التأويل بأنهم كانوا أحرى بذلك في حج النبي - صلى الله عليه وسلم - فكانوا حديثي عهد بالإسلام، والعهد بالصلاة قريب، ومع هذا فلم يربع بهم النبي، صلى الله عليه وسلم.
الثاني: أنه كان إماما للناس، والإمام حيث نزل فهو عمله ومحل ولايته، فكأنه وطنه: ورد هذا التأويل بأن إمام الخلائق على الإطلاق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان هو أولى بذلك، وكان هو الإمام المطلق، ولم يربع.
التأويل الثالث: أن منى كانت قد بنيت وصارت قرية كثر فيها المساكن في عهده، ولم يكن ذلك في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بل كانت فضاء، ولهذا بمنى بيتا يظلك من الحر؟ فقال: لا منى مناخ من سبق فتأول قيل له: يا رسول الله! ألا تبني لك أن القصر إنما يكون في حال السفر، ورد هذا التأويل بأن عثمان النبي - صلى الله عليه وسلم - أقام بمكة عشرا يقصر الصلاة.
التأويل الرابع: أنه أقام بها ثلاثا، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: فسماه مقيما، والمقيم غير مسافر، ورد هذا التأويل بأن هذه إقامة مقيدة في أثناء السفر، ليست بالإقامة التي هي قسيم [ ص: 1512 ] السفر، وقد أقام - صلى الله عليه وسلم - يقيم المهاجر بعد نسكه ثلاثا بمكة عشرا يقصر الصلاة، وأقام بمنى بعد نسكه أيام الجمار الثلاث يقصر الصلاة.
التأويل الخامس: أنه كان قد عزم على الإقامة والاستيطان بمنى، واتخاذها دار الخلافة، فلهذا أتم، ثم بدا له أن يرجع إلى المدينة، وهذا التأويل أيضا مما لا يقوى؛ فإن - رضي الله عنه - من المهاجرين الأولين، وقد منع - صلى الله عليه وسلم - المهاجر من الإقامة عثمان بمكة بعد نسكه، ورخص له ثلاثة أيام فقط، فلم يكن عثمان ليقيم بها وقد منع النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك، وإنما رخص فيها ثلاثا؛ وذلك لأنهم تركوها لله، وما ترك لله فإنه لا يعاد فيه ولا يسترجع، ولهذا منع النبي - صلى الله عليه وسلم - من شراء المتصدق لصدقته، وقال : لا تشترها ولا تعد في صدقتك، فجعله عائدا في صدقته مع أخذها بالثمن. لعمر
التأويل السادس: أنه كان قد تأهل بمنى، والمسافر إذا قام في موضع وتزوج فيه أو كان له به زوجة أتم، ويروى في ذلك حديث مرفوع عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فروى ، عن عكرمة إبراهيم الأزدي، عن أبي ذياب ، عن أبيه قال: صلى بأهل عثمان منى أربعا وقال: يا أيها الناس! لما قدمت تأهلت بها، وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إذا تأهل الرجل ببلدة فإنه يصلي بها صلاة مقيم رواه في "مسنده" الإمام أحمد في "مسنده" أيضا، وقد أعله وعبد الله بن الزبير الحميدي بانقطاعه وتضعيف البيهقي . عكرمة
[ ص: 1513 ] قال أبو البركات ابن تيمية: ويمكن المطالبة بسبب الضعف، فإن ذكره في تاريخه ولم يطعن فيه، وعادته ذكر الجرح والمجروحين، وقد نص البخاري أحمد قبله أن المسافر إذا تزوج لزمه الإتمام، وهذا قول وابن عباس أبي حنيفة وأصحابهما، وهذا أحسن ما اعتذر به عن ومالك . عثمان
وقد اعتذر عن أنها كانت أم المؤمنين، فحيث نزلت فكان وطنها، وهو أيضا اعتذار ضعيف، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أبو المؤمنين، وأمومة أزواجه فرع على أبوته، ولم يكن يتم لهذا السبب، وقد روى عائشة ، عن أبيه أنها كانت تصلي في السفر أربعا، فقلت لها: لو صليت ركعتين ؟ فقالت: يا ابن أختي! لا يشق علي. هشام بن عروة
قال رحمه الله: لو كان فرض المسافر ركعتين لما أتمها الشافعي ولا عثمان ولا عائشة ، ولم يجز أن يتمها مسافر مع مقيم، وقد قالت ابن مسعود : عائشة كل ذلك قد فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتم وقصر.
ثم روى عن إبراهيم، عن محمد ، عن طلحة بن عمر ، عن عن عطاء بن أبي رباح، قالت: عائشة كل ذلك فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - قصر الصلاة في السفر وأتم.
قال : وكذلك رواه البيهقي المغيرة، عن زياد، عن وأصح إسناد فيه ما أخبرنا عطاء، عن أبو بكر الحازمي، عن الدارقطني، المحاملي: حدثنا سعيد بن محمد بن أيوب، حدثنا أبو عاصم، حدثنا عمر بن سعيد، عن عن عطاء، ، عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقصر الصلاة في السفر ويتم، ويفطر ويصوم.
قال : وهذا إسناد صحيح، ثم ساق من طريق الدارقطني أبي بكر النيسابوري ، عن أنا عباس الدوري، ، حدثنا أبو نعيم العلاء بن زهير ، حدثني ، عبد الرحمن بن الأسود أنها اعتمرت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - من عائشة المدينة إلى مكة ، حتى إذا قدمت مكة قالت: يا رسول الله - بأبي أنت وأمي - قصرت وأتممت وصمت وأفطرت، قال: أحسنت يا عائشة! . عن
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: هذا الحديث كذب على ، ولم تكن عائشة لتصلي بخلاف صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسائر الصحابة، وهي تشاهدهم يقصرون [ ص: 1514 ] ثم تتم وحدها بلا موجب، كيف وهي القائلة: عائشة ، فكيف يظن أنها تزيد على ما فرض الله؟ وتخالف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه؟ فرضت الصلاة ركعتين، فزيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر
قال الزهري (لما حدثه عن أبيه عنها بذلك): فما شأنها؟ كانت تتم الصلاة، فقال: تأولت كما تأول لعروة فإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد حسن فعلها وأقرها فما للتأويل حينئذ وجه، ولا يصح أن يضاف إتمامها إلى التأويل على هذا التقدير، وقد أخبر عثمان، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يزيد في السفر على ركعتين ولا ابن عمر ولا أبو بكر أفيظن عمر، أم المؤمنين مخالفتهم وهي تراهم يقصرون؟! بعائشة
وأما بعد موته - صلى الله عليه وسلم - فإنها أتمت، كما أتم ، وكلاهما تأول تأويلا، والحجة في روايتهم لا في تأويل الواحد منهم، مع مخالفة غيره له، والله أعلم. عثمان
وقد أمية بن خالد : إنا نجد صلاة الحضر وصلاة الخوف في القرآن، ولا نجد صلاة السفر في القرآن، فقال له لعبد الله بن عمر : يا أخي! إن الله بعث ابن عمر محمدا - صلى الله عليه وسلم - ولا نعلم شيئا، فإنما نفعل كما رأينا محمدا - صلى الله عليه وسلم – يفعل. قال
وقد قال : أنس مكة ، فكان يصلي ركعتين ركعتين، حتى رجعنا إلى المدينة ، خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى : صحبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان لا يزيد في السفر على ركعتين، ابن عمر وأبا بكر وعمر - رضي الله عنهم وعثمان - وهذه كلها أحاديث صحيحة. انتهى كلام وقال ابن القيم .
قال الإمام الشوكاني في "نيل الأوطار": وقد استدل بحديثي القائلون بأن عائشة ويجاب عنهم بأن الحديث الثاني لا حجة لهم فيه؛ لما تقدم من أن لفظ (تتم وتصوم) بالفوقانية لأن فعلها - على فرض عدم معارضته لقوله وفعله صلى الله عليه وسلم - لا حجة فيه، فكيف إذا كان معارضا للثابت عنه من طريقها وطريق غيرها من الصحابة؟! وأما الحديث الأول [ ص: 1515 ] فلو كان صحيحا لكان حجة؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الجواب عنها: القصر رخصة، أحسنت ولكنه لا ينتهض لمعارضة ما في الصحيحين وغيرهما من طريق جماعة من الصحابة، وهذا بعد تسليم أنه حسن، كما قال : فكيف؟! وقد طعن فيه بتلك المطاعن المتقدمة، فإنها بمجردها توجب سقوط الاستدلال به عند عدم المعارض. انتهى. الدارقطني
المسألة الثالثة: استدل بعموم الآية من جوز ، ووجهه أن قوله تعالى: القصر في كل سفر طويلا أو قصيرا وإذا ضربتم في الأرض يصدق على كل ضرب، ولكنه خرج الضرب أي: المشي لغير السفر؛ لما كان يقع منه - صلى الله عليه وسلم - من الخروج إلى بقيع الغرقد ونحوه ولا يقصر.
ولم يأت في تعيين قدر السفر الذي يقصر فيه المسافر شيء، فوجب الرجوع إلى ما يسمى سفرا لغة وشرعا، ومن خرج من بلده قاصدا إلى محل - يعد في مسيره إليه مسافرا - قصر الصلاة، وإن كان ذلك المحل دون البريد، ولم يأت من اعتبر البريد واليوم واليومين والثلاث وما زاد على ذلك بحجة نيرة، وغاية ما جاؤوا به حديث: . لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر ثلاثة أيام بغير ذي محرم وفي رواية: يوما وليلة وفي رواية: بريدا
وليس في هذا الحديث ذكر القصر ولا هو في سياقه، والاحتجاج به مجرد تخمين، وأحسن ما ورد في التقدير ما رواه عن شعبة، يحيى بن زيد الهنائي قال: عن قصر الصلاة؟ فقال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ صلى ركعتين، والشك من شعبة، أنسا أخرجه سألت وغيره. مسلم
فإن قلت: محل الدليل في نهي المرأة عن السفر تلك المسافة بدون محرم - هو كونه صلى الله عليه وسلم سمى ذلك سفرا، قلت: تسميته سفرا لا تنافي [ ص: 1516 ] تسمية ما دونه سفرا، فقد سمى النبي - صلى الله عليه وسلم - مسافة الثلاث سفرا، كما سمى مسافة البريد سفرا في ذلك الحديث باعتبار اختلاف الرواية، وتسمية البريد سفرا لا ينافي تسمية ما دونه سفرا.
فإن قلت: أخرج الدارقطني والبيهقي من حديث والطبراني أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: ابن عباس يا أهل مكة ! لا تقصروا في أقل من أربعة برد من مكة إلى عسفان - قلت: هو ضعيف لا تقوم به الحجة، فإن في إسناده عبد الوهاب بن مجاهد بن جبر، وهو متروك، وفي المسألة مذاهب هذا أرجحها، والحاصل أن الواجب هو الرجوع إلى ما يصدق عليه اسم السفر شرعا أو لغة، كذا في "الروضة الندية".
وفي "المصباح": سفر الرجل سفرا - مثل طلب - خرج للارتحال.
وفي "القاموس": قوم سفر وسافرة وأسفار وسفار: ذوو سفر، لضد الحضر.
هذا وللقصر مباحث مقررة في شروح السنة.
ولما كان النص السابق الوارد في مشروعية القصر مجملا بين كيفيته بصورة في مزيد الحاجة إليها، ويكتفى فيما عداها ببيان السنة - فقال تعالى: