[ ص: 679 ] فصل و " أيضا " فلو كان كالمباح المستوي الطرفين والمعفو عنه وكفعل الصبيان والمجانين ما أمر بالاستغفار والتوبة فعلم أنه كان من السيئات القبيحة لكن أمر الله الناس أن يتوبوا ويستغفروا مما فعلوه وهذا كقوله تعالى : { الله لا يعاقب إلا بعد إقامة الحجة الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير } { ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير } { وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير } .
وقوله تعالى { قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين } { الذين لا يؤتون الزكاة } وقال : { إنا أرسلنا نوحا إلى قومه أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم } { قال يا قوم إني لكم نذير مبين } { أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون } { يغفر لكم من ذنوبكم } .
فدل على أنها كانت ذنوبا قبل إنذاره إياهم .
وقال عن هود : { وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون } { يا قوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون } { ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه } فأخبر في أول خطابه أنهم مفترون .
بأكثر الذي كانوا عليه كما قال لهم في الآية الأخرى : { أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان فانتظروا إني معكم من المنتظرين } .
وكذلك قال صالح : { يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب } .
وكذلك قال لوط لقومه : { أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين } .
فدل على أنها كانت فاحشة عندهم قبل أن ينهاهم .
بخلاف قول من يقول : ما كانت فاحشة ولا قبيحة ولا سيئة حتى نهاهم عنها ; ولهذا قال لهم : { أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر } .
وهذا خطاب لمن يعرفون قبح ما يفعلون ولكن أنذرهم بالعذاب .
وكذلك قول شعيب : { أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين } .
بين أن ما فعلوه [ ص: 681 ] كان بخسا لهم أشياءهم وأنهم كانوا عاثين في الأرض مفسدين قبل أن ينهاهم ; بخلاف قول " المجبرة " أن ظلمهم ما كان سيئة إلا لما نهاهم وأنه قبل النهي كان بمنزلة سائر الأفعال من الأكل والشرب وغير ذلك .
كما يقولون في سائر ما نهت عنه الرسل من الشرك والظلم والفواحش .
وهكذا إبراهيم الخليل قال : { واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا } { إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا } فهذا توبيخ على فعله قبل النهي وقال أيضا : { وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون } { إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا } .
فأخبر أنهم يخلقون إفكا قبل النهي .
وكذلك قول الخليل لقومه أيضا : { ماذا تعبدون } { أئفكا آلهة دون الله تريدون } { فما ظنكم برب العالمين } - إلى قوله - { أتعبدون ما تنحتون } { والله خلقكم وما تعملون } .
فهذا كله يبين قبح ما كانوا عليه قبل النهي وقبل إنكاره عليهم ولهذا استفهم استفهام منكر فقال : { أتعبدون ما تنحتون } { والله خلقكم وما تعملون } أي وخلق ما تنحتون .
فكيف يجوز أن تعبدوا ما تصنعونه بأيديكم ؟ وتدعون رب العالمين .
[ ص: 682 ] فلولا أن في نفس الأمر معلوم بالعقل لم يخاطبهم بهذا إذ كانوا لم يفعلوا شيئا يذمون عليه بل كان فعلهم كأكلهم وشربهم وإنما كان قبيحا بالنهي ومعنى قبحه كونه منهيا عنه لا لمعنى فيه ; كما تقوله حسن التوحيد وعبادة الله تعالى وحده لا شريك له وقبح الشرك ثابت المجبرة .
و " أيضا " ففي القرآن في مواضع كثيرة يبين لهم قبح ما هم عليه من الشرك وغيره بالأدلة العقلية ويضرب لهم الأمثال كقوله تعالى : { قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون } { سيقولون لله قل أفلا تذكرون } .
وقوله : { أفلا تتقون } وقوله : { فأنى تسحرون } فهذا يقتضي أن اعترافهم بأن الله هو الخالق يوجب انتهاءهم عن عبادتها وأن عبادتها من القبائح المذمومة ; ولكن هؤلاء يظنون أن الشرك هو اعتقاد أن ثم خالق آخر وهذا باطل ; بل وإن اعترف المشرك بأنه مخلوق . الشرك عبادة غير الله
وقوله : إنه كله لله كذب مفترى وإن قال : إنه مخلوق .
ومثل هذا كثير في القرآن .
كقوله : { أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله بل هم قوم يعدلون } { أمن جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا أإله مع الله } وهذا في جملة بعد جملة يقول : { أإله مع الله } إنكارا عليهم أن يعبدوا غير الله ويتخذوه إلها مع اعترافهم بأن هذا لم يفعله إله غير الله وإنما فعله هو وحده .
وقوله { أإله مع الله } جواب الاستفهام أي إله مع الله [ موجود ؟ ] وهذا غلط فإنهم يجعلون مع الله آلهة ويشهدون بذلك ; لكن ما كانوا يقولون : إنهم فعلوا ذلك .
والتقرير إنما يكون لما يقرون به وهم مقرون بأنهم لم يفعلوا .
لا يقرون بأنه لم يكن معه إله .
قال تعالى : { أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون } .
وقد قال سبحانه : { وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم } .
وقال : { إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم } .
وقال : { ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم } .
[ ص: 684 ] فهذا وإن كان قال الصحابة والتابعون إن كل عاص فهو جاهل .
كما قد بسط في موضع آخر فهو متناول لمن يكون علم التحريم أيضا .
فدل على أنه يكون عاملا سوءا وإن كان لم يسمع الخطاب المبين المنهي عنه وأنه يتوب من ذلك فيغفر الله له ويرحمه وإن كان لا يستحق العقاب إلا بعد بلوغ الخطاب وقيام الحجة .