فصل قوله صلى الله عليه وسلم { } ليس هو تحصيل للحاصل لكنه إخبار بأن من نوى بعمله شيئا فقد حصل له ما نواه أي : من قصد بهجرته الله ورسوله حصل له ما قصده ومن كان قصده الهجرة إلى دنيا أو امرأة فليس له إلا ذلك فهذا تفصيل لقوله : { فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله } [ ص: 280 ] ولما أخبر أن لكل امرئ ما نوى ذكر أن لهذا ما نواه ولهذا ما نواه . إنما الأعمال بالنيات
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { والهجرة مشتقة من الهجر } كما قال : { المهاجر من هجر ما نهى الله عنه والمجاهد من جاهد نفسه في ذات الله } وهذا بيان منه لكمال مسمى هذا الاسم كما قال : { المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم } إلخ وقد يشبه هذا قوله : { ليس المسكين بهذا الطواف } . وقال : { ما تعدون المفلس فيكم ؟ قالوا : من ليس له درهم ولا دينار . قال : ليس هذا المفلس ولكن المفلس من يأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال فيأتي وقد ضرب هذا ; وشتم هذا ; وأخذ مال هذا ; فيعطي هذا من حسناته ; وهذا من حسناته ; فإذا لم يبق له حسنة أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه ; ثم طرح في النار } ومثله قوله : { ما تعدون الرقوب فيكم ؟ قالوا : من لا يولد له . قال : الرقوب من لم يقدم من ولده شيئا } . ليس الشديد بالصرعة وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب
لكن في هذه الأحاديث مقصود وبيان ما هو أحق بأسماء المدح والذم مما يظنونه . فإن الإفلاس حاجة وذلك مكروه فبين أن حقيقة الحاجة إنما تكون يوم القيامة وكذلك عدم الولد تكرهه النفوس لعدم الولد النافع فبين أن الانتفاع بالولد حقيقة إنما يكون في الآخرة لمن [ ص: 281 ] قدم أولاده بين يديه وكذلك الشدة والقوة محبوبة فبين أن قوة النفوس أحق بالمدح من قوة البدن وهو أن يملك نفسه عند الغضب كما قيل لبعض سادات العرب : ما بال عبيدك أصبر منكم عند الحرب وعلى الأعمال ؟ قال : هم أصبر أجسادا ونحن أصبر نفوسا .
وأما قوله : في اسم المسلمين فهو من جنس قوله : في المسلم والمؤمن والمهاجر والمجاهد وهذا مطابق لما تقدم من أن الشارع لا ينفي مسمى اسم شرعي إلا لانتفاء كماله الواجب ; فإن ; وسلامة المسلمين من عدوان الإنسان بلسانه ويده واجب والمؤمن على دمائهم وأموالهم لا يكون من أمنه الناس إلا إذا كان أمينا والأمانة واجبة والمسكين الذي لا يسأل ولا يعرف هو أحق بالإعطاء ممن أظهر حاجته وسؤاله وعطاؤه واجب وتخصيص السائل بالعطاء دون هذا لا يجوز بل تخصيص الذي لا يسأل أولى وأوجب وأحب . هجر ما نهى الله عنه واجب
وقد قال صلى الله عليه وسلم { } وقال { لا هجرة بعد الفتح ; ولكن جهاد ونية ; وإذا استنفرتم فانفروا } وكلاهما حق . فالأول أراد به الهجرة المعهودة في زمانه وهي الهجرة إلى لا تنقطع الهجرة ما قوتل العدو المدينة من مكة وغيرها من أرض العرب فإن هذه الهجرة كانت مشروعة لما كانت مكة وغيرها دار كفر وحرب وكان الإيمان بالمدينة فكانت الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام واجبة لمن قدر عليها فلما فتحت مكة وصارت دار الإسلام ودخلت العرب في الإسلام [ ص: 282 ] صارت هذه الأرض كلها دار الإسلام فقال : { } لا هجرة بعد الفتح بل هي صفة عارضة بحسب سكانها فكل أرض سكانها المؤمنون المتقون هي دار أولياء الله في ذلك الوقت وكل أرض سكانها الكفار فهي دار كفر في ذلك الوقت وكل أرض سكانها الفساق فهي دار فسوق في ذلك الوقت فإن سكنها غير ما ذكرنا وتبدلت بغيرهم فهي دارهم . وكون الأرض دار كفر ودار إيمان أو دار فاسقين ليست صفة لازمة لها ;
وكذلك المسجد إذا تبدل بخمارة أو صار دار فسق أو دار ظلم أو كنيسة يشرك فيها بالله كان بحسب سكانه ; وكذلك دار الخمر والفسوق ونحوها إذا جعلت مسجدا يعبد الله فيه جل وعز كان بحسب ذلك وكذلك الرجل الصالح يصير فاسقا والكافر يصير مؤمنا أو المؤمن يصير كافرا أو نحو ذلك كل بحسب انتقال الأحوال من حال إلى حال وقد قال تعالى : { وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة } الآية نزلت في مكة لما كانت دار كفر وهي ما زالت في نفسها خير أرض الله وأحب أرض الله إليه وإنما أراد سكانها . فقد روىالترمذي مرفوعا : { لمكة وهو واقف بالحزورة : والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله ولولا أن قومي أخرجوني منك لما خرجت } وفي رواية : { أنه قال } فبين أنها أحب أرض الله إلى الله ورسوله وكان مقامه خير أرض الله وأحب أرض الله إلي بالمدينة ومقام [ ص: 283 ] من معه من المؤمنين أفضل من مقامهم بمكة لأجل أنها دار هجرتهم ; ولهذا كان مكة والمدينة كما ثبت في الصحيح : { الرباط بالثغور أفضل من مجاورة } وفي السنن عن رباط يوم وليلة في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه ومن مات مرابطا مات مجاهدا وجرى عليه عمله وأجري رزقه من الجنة وأمن الفتان عثمان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { } وقال رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل : لأن أرابط ليلة في سبيل الله أحب إلي من أن أقوم ليلة القدر عند الحجر الأسود ; ولهذا كان أفضل الأرض في حق كل إنسان أرض يكون فيها أطوع لله ورسوله وهذا يختلف باختلاف الأحوال ولا تتعين أرض يكون مقام الإنسان فيها أفضل وإنما يكون الأفضل في حق كل إنسان بحسب التقوى والطاعة والخشوع والخضوع والحضور وقد كتب أبو هريرة إلى أبو الدرداء سلمان : هلم إلى الأرض المقدسة فكتب إليه سلمان : أن الأرض لا تقدس أحدا وإنما يقدس العبد عمله . { سلمان وأبي الدرداء } وكان وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد آخى بين سلمان أفقه من في أشياء من جملتها هذا . وقد قال الله تعالى أبي الدرداء لموسى عليه السلام { سأريكم دار الفاسقين } وهي الدار التي كان بها أولئك العمالقة ثم صارت بعد هذا دار المؤمنين وهي الدار التي دل عليها القرآن من الأرض المقدسة [ ص: 284 ] وأرض مصر التي أورثها الله بني إسرائيل فأحوال البلاد كأحوال العباد فيكون الرجل تارة مسلما وتارة كافرا وتارة مؤمنا ; وتارة منافقا وتارة برا تقيا وتارة فاسقا وتارة فاجرا شقيا .
وهكذا المساكن بحسب سكانها كتوبته وانتقاله من الكفر والمعصية إلى الإيمان والطاعة وهذا أمر باق إلى يوم القيامة والله تعالى قال : { فهجرة الإنسان من مكان الكفر والمعاصي إلى مكان الإيمان والطاعة والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم } .
قالت طائفة من السلف : هذا يدخل فيه من آمن وهاجر وجاهد إلى يوم القيامة وهكذا قوله تعالى { ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم } يدخل في معناها كل من فتنه الشيطان عن دينه أو أوقعه في معصية ثم هجر السيئات وجاهد نفسه وغيرها من العدو وجاهد المنافقين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك وصبر على ما أصابه من قول أو فعل . والله سبحانه وتعالى أعلم .