[ ص: 228 ] وقال شيخ الإسلام قدس الله روحه فصل . ويكون الصواب في مواضع أن يقال : السمعية والعقلية ; وذلك أن قولنا : العلوم الشرعية قد يراد به ما أمر به الشارع وقد يراد به ما أخبر به الشارع وقد يراد به ما شرع أن يعلم وقد يراد به ما علمه الشارع . قول الناس : العلوم الشرعية والعقلية قد يكون بينهما عموم وخصوص وقد يكون أحدهما قسيم الآخر
فالأول : هو العلم المشروع - كما يقال : العمل المشروع - وهو الواجب أو المستحب وربما دخل فيه المباح بالشرع .
والثاني : هو العلم المستفاد من الشارع وهو ما علمه الرسول لأمته بما بعث به من الإيمان والقرآن والكتاب والحكمة وهو ما دل عليه الكتاب والسنة أو الإجماع أو توابع ذلك .
فالأول : إضافة له بحسب حكمه في الشرع والثاني : إضافة إلى [ ص: 229 ] طريقه ودليله فقولنا في الأول : علم شرعي كما يقال : عمل شرعي والثاني : كما يقال : علم عقلي وسمعي الأول نظر فيه من جهة المدح والذم والثواب والعقاب والأمر والنهي وهو خطاب التكليف . والثاني نظر فيه من جهة طريقه ودليله وصحته وفساده ومطابقته ومخالفته وهو من جهة خطاب الإخبار .
ثم كل من القسمين على قسمين : فإنه إذا عرف أن الشرعي : إما أن يكون ما أخبر به ; وإما أن يكون ما أمر به . فما أخبر به : إما أن يبين له دليلا عقليا أو لا يذكر . وما أمر به : إما أن يكون مقصودا للشارع ; أو لازما لمقصود الشارع وهو ما لا يتم مقصوده الواجب أو المستحب إلا به . فهذه أربعة أقسام .
وإن شئت أن تقسم المأمور به إلى ما يعرف بالعقل فقط وإلى ما يعرف بالشرع أيضا فيكون شرعيا خبرا وأمرا ; فإن ما علم بالشرع لا يخلو : إما أن يراد به إخبار الشارع أو دلالة الشارع فإذا عني به ما دل عليه الشارع مثل دلالته على آيات الربوبية ودلالة الرسالة ونحو ذلك ; فإنه يجتمع في هذا أن يكون شرعيا عقليا . فإن الشارع لما نبه العقول على الآيات والبراهين والعبر اهتدت العقول فعلمت ما هداها إليه الشارع .
[ ص: 230 ] واعلم أن عامة مسائل أصول الدين الكبار ; مثل الإقرار بوجود الخالق وبوحدانيته وعلمه وقدرته ومشيئته وعظمته والإقرار بالثواب وبرسالة محمد صلى الله عليه وسلم وغير ذلك مما يعلم بالعقل : قد دل الشارع على أدلته العقلية . وهذه الأصول التي يسميها أهل الكلام العقليات وهي ما تعلم بالعقل فإنها تعلم بالشرع لا أعني بمجرد إخباره فإن ذلك لا يفيد العلم إلا بعد العلم بصدق المخبر فالعلم بها من هذا الوجه موقوف على ما يعلم بالعقل من الإقرار بالربوبية وبالرسالة وإنما أعني بدلالته وهدايته كما أن ما يتعلمه المتعلمون ببيان المعلمين وتصنيف المصنفين إنما هو لما بينوه للعقول من الأدلة .
فهذا موضع يجب التفطن له ; فإن كثيرا من الغالطين من متكلم ومحدث ومتفقه وعامي وغيرهم : يظن أن العلم المستفاد من الشرع إنما هو لمجرد إخباره تصديقا له فقط ; وليس كذلك ; بل يستفاد منه بالدلالة والتنبيه والإرشاد جميع ما يمكن ذلك فيه من علم الدين .
والقسم الثاني من الشرعي : ما يعلم بإخبار الشارع . فهذا لا يخلو : إما أن يمكن علمه بالعقل أيضا ; أو لا يمكن ; فإن لم يمكن فلهذا يعلم بمجرد إخبار الشارع وإن أمكن علمه بالعقل فهل يوجد مثل هذا ؟ وهو أن يكون أمر أخبر الشارع به وعلمه ممكن بالعقل أيضا ولم يدل الشارع على دليل له عقلي فهذا ممكن ولا نقص إذا وقع مثل [ ص: 231 ] هذا في الشريعة ; فإنه إذا عرف صدق المبلغ جاز أن يعلم بخبره كل ما يحتاج إليه ولا ريب أن كثيرا من الناس لا ينالون علم ذلك إلا من جهة خبر الشارع وقد أحسنوا في ذلك حيث آمنوا به ; لكن هل ذلك واقع مطلقا ؟ . وقد ذهب خلائق من المتفلسفة والمتكلمة والمتفقهة والمتصوفة والعامة وغير ذلك إلى وقوع ذلك وهو أن فيما أخبر به الشارع أمورا قد تعلم بالعقل أيضا وإن كان الشارع لم يذكر دلالته العقلية .
وهذا فيه نظر ; فإن من تأمل وجوه دلالة الكتاب والسنة وما فيها من جلي وخفي وظاهر وباطن قد يقول : إن الشارع نبه في كل ما يمكن علمه بالعقل على دلالة عقلية كما قد حصل الاتفاق على أن ذلك واقع في مسائل أصول الدين الكبار وفي هذا نظر .
فصارت العلوم بهذا الاعتبار : إما أن تعلم بالشرع فقط وهو ما يعلم بمجرد إخبار الشرع مما لا يهتدي العقل إليه بحال لكن هذه العلوم قد تعلم بخبر آخر غير خبر شارعنا محمد صلى الله عليه وسلم . وإما أن تعلم بالعقل فقط ; كمرويات الطب والحساب والصناعات . وإما أن تعلم بهما فإما أن يكون الشارع قد هدى إلى دلالتها كما أخبر بها أم لا فإن كان الأول فهي عقليات الشرعيات ; أو عقلي [ ص: 232 ] الشارع . أو ما شرع عقله . أو العقل المشروع . وإما أن يكون قد أخبر بها فقط فهذه عقلية من غير الشارع . فيجب التفطن .
لكن العقلي قد يعقل من الشارع وهو عامة أصول الدين وقد يعقل من غيره ولم يعقل منه فهذا في وجوده نظر .
وبهذا التحرير يتبين لك أن عامة المتفلسفة وجمهور المتكلمة جاهلة بمقدار العلوم الشرعية ودلالة الشارع عليها ويوهمهم علو العقلية عليها فإن جهلهم ابتنى على مقدمتين جاهليتين : إحداهما : أن الشرعية ما أخبر الشارع بها .
والثانية : أن ما يستفاد بخبره فرع للعقليات التي هي الأصول فلزم من ذلك تشريف العقلية على الشرعية .
وكلا المقدمتين باطلة ; فإن . وما دل الشارع عليه ينتظم جميع ما يحتاج إلى علمه بالعقل وجميع الأدلة والبراهين وأصول الدين ومسائل العقائد بل قد تدبرت عامة ما يذكره الشرعيات : ما أخبر الشارع بها وما دل الشارع عليها المتفلسفة والمتكلمة والدلائل العقلية فوجدت دلائل الكتاب والسنة تأتي بخلاصته الصافية عن الكدر وتأتي بأشياء [ ص: 233 ] لم يهتدوا لها وتحذف ما وقع منهم من الشبهات والأباطيل مع كثرتها واضطرابها وقد بينت تفصيل هذه الجملة في مواضع .
وأما إذا أريد بالشرعية ما شرع علمه . فهذا يدخل فيه كل علم مستحب أو واجب وقد يدخل فيه المباح وأصول الدين على هذا من العلوم الشرعية أيضا وما علم بالعقل وحده فهو من الشرعية أيضا ; إذا كان علمه مأمورا به في الشرع .
وعلى هذا فتكون الشرعية قسمين : عقلية وسمعية . وتجعل السمعية هنا بدل الشرعية في الطريقة الأولى وقد تبين بهذا أن كل علم عقلي أمر الشرع به أو دل الشرع عليه فهو شرعي أيضا إما باعتبار الأمر أو الدلالة أو باعتبارهما جميعا .
ويتبين بهذا التحرير أن فهو يجري مجرى الصناعات كالفلاحة والبناية والنساجة وهذا لا يكون إلا في العلوم المفضولة المرجوحة ويتبين أن مسمى الشرعية أشرف وأوسع وأن بين العقلية والشرعية عموما وخصوصا ليس أحدهما قسيم الآخر وإنما السمعي قسيم العقلي وأنه يجتمع في العلم أن يكون عقليا وهو شرعي بالاعتبارات الثلاثة : إخباره به ; أمره به ; دلالة عليه . فتدبر أن النسبة [ ص: 234 ] إلى الشرع بهذه الوجوه الثلاثة . ما خرج من العلوم العقلية عن مسمى الشرعية وهو ما لم يأمر به الشارع ولم يدل عليه
ثم : إما أن يكون أمره به يعود [ إلى ما يقصده الشارع حقيقة ] أو لزوما من جهة ما لا يتأتى المشروع إلا به . ما أمر به الشارع من العلم
وكذلك الحكم الشرعي يريد به المعتزلة ما أخبر به الشارع فقط . ويريد به الأشعرية ما أثبته الشارع . وقد وافق كل فريق قوم من أصحابنا وغيرهم والصواب أن الحكم الشرعي يكون تارة ما أخبر به ; ويكون تارة ما أثبته وتارة يجتمع الأمران . والله أعلم .