وأما الرجال مع النساء فلأجل شهوة النكاح فهذان نوعان وفي الصلاة نوع ثالث ; فإن فأخذ الزينة في الصلاة لحق الله المرأة لو صلت وحدها كانت مأمورة بالاختمار وفي غير الصلاة يجوز لها كشف رأسها في بيتها ولو [ ص: 114 ] كان وحده بالليل ولا يصلي عريانا ولو كان وحده فعلم أن أخذ الزينة في الصلاة لم يكن ليحتجب عن الناس فهذا نوع وهذا نوع . فليس لأحد أن يطوف بالبيت عريانا
وحينئذ فقد يستر المصلي في الصلاة ما يجوز إبداؤه في غير الصلاة وقد يبدي في الصلاة ما يستره عن الرجال : فالأول : مثل المنكبين . فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يصلي الرجل في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء . فهذا لحق الصلاة ويجوز له كشف منكبيه للرجال خارج الصلاة كذلك المرأة الحرة تختمر في الصلاة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم { } " وهي لا تختمر عند زوجها ولا عند ذوي محارمها فقد جاز لها إبداء الزينة الباطنة لهؤلاء ولا يجوز لها في الصلاة أن يكشف رأسها لهؤلاء ولا لغيرهم . لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار
وعكس ذلك : الوجه واليدان والقدمان ليس لها أن تبدي ذلك للأجانب على أصح القولين بخلاف ما كان قبل النسخ بل لا تبدي إلا الثياب . وأما ستر ذلك في الصلاة فلا يجب باتفاق المسلمين بل يجوز لها إبداؤهما في الصلاة عند جمهور العلماء كأبي حنيفة والشافعي وغيرهما وهو إحدى الروايتين عن أحمد . فكذلك القدم يجوز إبداؤه عند أبي حنيفة وهو الأقوى . فإن عائشة جعلته من الزينة الظاهرة .
قالت : { ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها } قالت : " الفتخ " حلق [ ص: 115 ] من فضة تكون في أصابع الرجلين . رواه ابن أبي حاتم . فهذا دليل على أن النساء كن يظهرن أقدامهن أولا كما يظهرن الوجه واليدين كن يرخين ذيولهن فهي إذا مشت قد يظهر قدمها ولم يكن يمشين في خفاف وأحذية وتغطية هذا في الصلاة فيه حرج عظيم . وأم سلمة قالت : " تصلي المرأة في ثوب سابغ يغطي ظهر قدميها " فهي إذا سجدت قد يبدو باطن القدم .
وبالجملة : قد ثبت بالنص والإجماع أنه وإنما ذلك إذا خرجت . وحينئذ فتصلي في بيتها وإن رئي وجهها ويداها وقدماها كما كن يمشين أولا قبل الأمر بإدناء الجلابيب عليهن فليست العورة في الصلاة مرتبطة بعورة النظر لا طردا ولا عكسا . ليس عليها في الصلاة أن تلبس الجلباب الذي يسترها إذا كانت في بيتها
وابن مسعود رضي الله عنه لما قال : الزينة الظاهرة هي الثياب لم يقل إنها كلها عورة حتى ظفرها بل هذا قول أحمد يعني أنها تشترط في الصلاة ; فإن الفقهاء يسمون ذلك : ( باب ستر العورة وليس هذا من ألفاظ الرسول ولا في الكتاب والسنة أن ما يستره . المصلي فهو عورة ; بل قال تعالى : { خذوا زينتكم عند كل مسجد } { } فالصلاة أولى . وسئل عن ونهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يطوف بالبيت عريانا . فقال : " { الصلاة في الثوب الواحد } [ ص: 116 ] وقال في الثوب الواحد : { أو لكلكم ثوبان ؟ } " " { إن كان واسعا فالتحف به وإن كان ضيقا فاتزر به } . ونهى أن يصلي الرجل في ثوب واحد ليس على عاتقه منه شيء
فهذا دليل على أنه يؤمر في الصلاة بستر العورة : الفخذ وغيره وإن جوزنا للرجل النظر إلى ذلك . فإذا قلنا على أحد القولين وهو إحدى الروايتين عن أحمد : أن العورة السوأتان وأن الفخذ ليست بعورة فهذا في جواز نظر الرجل إليها ; ليس هو في الصلاة والطواف فلا يجوز أن يصلي الرجل مكشوف الفخذين سواء قيل هما عورة أو لا . ولا يطوف عريانا . بل عليه أن يصلي في ثوب واحد ولا بد من ذلك إن كان ضيقا اتزر به وإن كان واسعا التحف به ; كما أنه لو صلى وحده في بيت كان عليه تغطية ذلك باتفاق العلماء .
وأما فهذا لا يجوز ولا ينبغي أن يكون في ذلك خلاف ومن بنى ذلك على الروايتين في العورة كما فعله طائفة فقد غلطوا ; ولم يقل صلاة الرجل بادي الفخذين مع القدرة على الإزار أحمد ولا غيره : أن المصلي يصلي على هذه الحال . كيف وأحمد يأمره بستر المنكبين فكيف يبيح له كشف الفخذ فهذا هذا .
[ ص: 117 ] وقد اختلف في وجوب ولم يختلف في أنه في الصلاة لا بد من اللباس لا تجوز ستر العورة إذا كان الرجل خاليا باتفاق العلماء ; ولهذا جوز الصلاة عريانا مع قدرته على اللباس أحمد وغيره للعراة أن يصلوا قعودا ويكون إمامهم وسطهم بخلاف خارج الصلاة وهذه الحرمة لا لأجل النظر . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث { بهز بن حكيم عن أبيه عن جده لما قال : قلت يا رسول الله فإذا كان أحدنا خاليا . قال : فالله أحق أن يستحيا منه من الناس } " فإذا كان هذا خارج الصلاة فهو في الصلاة أحق أن يستحيا منه فتؤخذ الزينة لمناجاته سبحانه .
ولهذا قال ابن عمر لغلامه نافع لما رآه يصلي حاسرا : أرأيت لو خرجت إلى الناس كنت تخرج هكذا ؟ قال : لا . قال : فالله أحق من يتجمل له . وفي الحديث الصحيح لما قيل له - صلى الله عليه وسلم - { } . الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنا . فقال : إن الله جميل يحب الجمال
وهذا كما أمر المصلي بالطهارة والنظافة . والطيب فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن تتخذ المساجد في البيوت وتنظف وتطيب وعلى هذا فيستتر في الصلاة أبلغ مما يستتر الرجل من الرجل والمرأة من المرأة . ولهذا أمرت المرأة أن تختمر في الصلاة وأما وجهها [ ص: 118 ] ويداها وقدماها فهي إنما نهيت عن إبداء ذلك للأجانب لم تنه عن إبدائه للنساء ولا لذوي المحارم .
فعلم أنه ليس من جنس عورة الرجل مع الرجل والمرأة مع المرأة التي نهي عنها ; لأجل الفحش وقبح كشف العورة . بل هذا من مقدمات الفاحشة فكان النهي عن إبدائها نهيا عن مقدمات الفاحشة كما قال في الآية : { ذلكم أزكى لكم } وقال في آية الحجاب : { ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن } فنهى عن هذا سدا للذريعة ; لا أنه عورة مطلقة لا في الصلاة ولا غيرها فهذا هذا .
واليدان يسجدان كما يسجد الوجه والنساء على عهد النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان لهن قمص وكن يصنعن الصنائع والقمص عليهن فتبدي المرأة يديها إذا عجنت وطحنت وخبزت ولو كان ستر اليدين في الصلاة واجبا لبينه النبي صلى الله عليه وسلم . كذلك القدمان . وإنما أمر بالخمار فقط مع القميص فكن يصلين بقمصهن وخمرهن : { وأمر المرأة في الصلاة بتغطية يديها بعيد جدا } . وقول وأما الثوب التي كانت المرأة ترخيه وسألت عن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : شبرا فقلن : إذن تبدو سوقهن فقال : ذراع لا يزدن عليه : [ ص: 119 ] عمر بن أبي ربيعة
كتب القتل والقتال علينا وعلى الغانيات جر الذيول
فهذا كان إذا خرجن من البيوت ; ولهذا { فقال : يطهره ما بعده المرأة تجر ذيلها على المكان القذر } " . وأما في نفس البيت فلم تكن تلبس ذلك . كما أن الخفاف اتخذها النساء بعد ذلك لستر السوق إذا خرجن وهن لا يلبسنها في البيوت ; ولهذا قلن : إذن تبدوا سوقهن . فكان المقصود تغطية الساق ; لأن الثوب إذا كان فوق الكعبين بدا الساق عند المشي . سئل عنوقد روي : { } يعني إذا لم يكن لها ما تلبسه في الخروج لزمت البيت وكن نساء المسلمين يصلين في بيوتهن . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " { أعروا النساء يلزمن الحجال لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وبيوتهن خير لهن } " ولم يؤمرن مع القمص إلا بالخمر لم تؤمر بسراويل لأن القميص يغني عنه ولم تؤمر بما يغطي رجليها لا خف ولا جورب ولا بما يغطي يديها لا بقفازين ولا غير ذلك . فدل على أنه لا يجب عليها في الصلاة ستر ذلك إذا لم يكن عندها رجال أجانب . وقد روي : { أن الملائكة لا تنظر إلى الزينة الباطنة فإذا وضعت خمارها وقميصها لم ينظر إليها } وروي في ذلك حديث عن خديجة .
[ ص: 120 ] فهذا القدر للقميص والخمار هو المأمور به لحق الصلاة كما يؤمر الرجل إذا صلى في ثوب واسع أن يلتحف به فيغطي عورته ومنكبيه فالمنكبان في حقه كالرأس في حق المرأة لأنه يصلي في قميص أو ما يقوم مقام القميص . وهو في الإحرام لا يلبس على بدنه ما يقدر له كالقميص والجبة كما أن المرأة لا تنتقب ولا تلبس القفازين . وأما رأسه فلا يخمره ووجه المرأة فيه قولان في مذهب أحمد وغيره ; قيل : إنه كرأس الرجل فلا يغطى . وقيل : إنه كيديه فلا تغطى بالنقاب والبرقع ونحو ذلك مما صنع على قدره وهذا هو الصحيح ; فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينه إلا عن القفازين والنقاب .
وكن النساء يدنين على وجوههن ما يسترها من الرجال من غير وضع ما يجافيها عن الوجه فعلم أن وجهها كيدي الرجل ويديها ; وذلك أن المرأة كلها عورة كما تقدم فلها أن تغطي وجهها ويديها لكن بغير اللباس المصنوع بقدر العضو كما أن الرجل لا يلبس السراويل ويلبس الإزار والله سبحانه وتعالى أعلم .