فصل وإنما فرض عليه من بل الركعات فرضها ونفلها هو الدعاء الذي تتضمنه أم القرآن وهو قوله تعالى { الدعاء الراتب الذي يتكرر بتكرر الصلوات اهدنا الصراط المستقيم } { صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } لأن كل عبد فهو مضطر دائما إلى مقصود هذا الدعاء وهو هداية الصراط المستقيم فإنه لا نجاة من العذاب إلا بهذه الهداية ولا وصول إلى السعادة إلا به فمن فاته هذا الهدى : فهو إما من المغضوب عليهم أو من الضالين .
[ ص: 400 ] وهذا الاهتداء لا يحصل إلا بهدى الله : { من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا } وهذه الآية مما يبين به فساد مذهب القدرية الذين يزعمون أن العبد لا يفتقر في حصول هذا الاهتداء . بل كل عبد عندهم فمعه ما يحصل به الطاعة والمعصية لا فرق عندهم بين المؤمن والكافر ولم يخص الله المؤمن عندهم بهدى حصل به الاهتداء والكلام عليهم مبسوط في موضع آخر .
والمقصود هنا أن كل عبد فهو مفتقر دائما إلى حصول هذه الهداية وأما سؤال من يقول : فقد هداهم إلى الإيمان فلا حاجة إلى الهدى . وجواب من يجيب بأن المطلوب دوام الهدى . فكلام من لم يعرف حال الإنسان وما أمر به ; فإن الصراط المستقيم حقيقته : أن تفعل كل وقت ما أمرت به في ذلك الوقت من علم وعمل ولا تفعل ما نهيت عنه وإلى أن يحصل له إرادة جازمة لفعل المأمور وكراهة جازمة لترك المحذور . وهذا العلم المفصل والإرادة المفصلة لا يتصور أن يحصل للعبد في وقت واحد بل كل وقت يحتاج أن يجعل الله في قلبه من العلوم والإرادات ما يهدى به في ذلك الوقت .
نعم حصل له هدى مجمل بأن القرآن حق ودين الإسلام حق والرسول حق ونحو ذلك ولكن هذا الهدى المجمل لا يغنيه إن لم يحصل هدى مفصل في كل ما يأتيه ويذره من الجزئيات التي يحار [ ص: 401 ] في كثير منها أكثر عقول الخلق ويغلب الهوى والشهوات أكثر الخلق لغلبة الشبهات والشهوات على النفوس .
والإنسان خلق ظلوما جهولا . فالأصل فيه عدم العلم وميله إلى ما يهواه من الشر فيحتاج دائما إلى علم مفصل يزول به جهله وعدل في محبته وبغضه ورضاه وغضبه وفعله وتركه وإعطائه ومنعه وكل ما يقوله ويعمله يحتاج فيه إلى عدل ينافي ظلمه فإن لم يمن الله عليه بالعلم المفصل والعدل المفصل كان فيه من الجهل والظلم ما يخرج به عن الصراط المستقيم . وقد قال الله تعالى لنبيه بعد صلح الحديبية وبيعة الرضوان : { إنا فتحنا لك فتحا مبينا } { ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما } { وينصرك الله نصرا عزيزا } فأخبر أنه فعل هذا ; ليهديه صراطا مستقيما فإذا كان هذا حاله فكيف بحال غيره .
والصراط المستقيم قد فسر بالقرآن والإسلام وطريق العبودية فكل هذا حق فهو موصوف بهذا وبغيره فحاجته إلى هذه الهداية ضرورية في سعادته ونجاته بخلاف الحاجة إلى الرزق والنصر فإن الله يرزقه فإذا انقطع رزقه مات والموت لا بد منه فإن كان من أهل الهداية كان سعيدا بعد الموت وكان الموت موصلا له إلى السعادة الدائمة الأبدية فيكون رحمة في حقه .
[ ص: 402 ] وكذلك النصر إذا قدر أنه قهر وغلب حتى قتل فإذا كان من أهل الهداية والاستقامة مات شهيدا وكان القتل من تمام نعمة الله عليه فتبين أن والنصر بل لا نسبة بينهما ; فلهذا كان هذا الدعاء هو المفروض عليهم . حاجة العباد إلى الهدى أعظم من حاجتهم إلى الرزق
وأيضا فإن هذا الدعاء يتضمن الرزق والنصر .
لأنه إذا هدي الصراط المستقيم كان من المتقين { ومن يتق الله يجعل له مخرجا } { ويرزقه من حيث لا يحتسب } وكان من المتوكلين { ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره } وكان ممن ينصر الله ورسوله ومن ينصر الله ينصره الله وكان من جند الله وجند الله هم الغالبون . فالهدى التام يتضمن حصول أعظم ما يحصل به الرزق والنصر . فتبين أن هذا الدعاء هو الجامع لكل مطلوب يحصل به كل منفعة ويندفع به كل مضرة فلهذا فرض على العبد . وهذا مما يبين أن أصلا وأن فضلها على غيرها من الكلام أعظم من فضل الركوع والسجود على سائر أفعال الخضوع فإذا تعينت الأفعال فهذا أولى . والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا غير الفاتحة لا يقوم مقامها محمد وآله وصحبه وسلم .