فصل قد ذكرت فيما كتبته من المناسك أن السفر إلى مسجده وزيارة قبره - كما يذكره أئمة المسلمين في مناسك الحج - عمل صالح [ ص: 330 ] مستحب . وقد ذكرت في عدة " مناسك الحج " السنة في ذلك ؟ على قولين فالأكثرون يقولون : يستقبل الحجرة وكيف يسلم عليه وهل يستقبل الحجرة أم القبلة كمالك والشافعي وأحمد . وأبو حنيفة يقول : يستقبل القبلة ويجعل الحجرة عن يساره في قول وخلفه في قول لأن الحجرة المكرمة لما كانت خارجة عن المسجد وكان الصحابة يسلمون عليه لم يكن يمكن أحدا أن يستقبل وجهه صلى الله عليه وسلم ويستدبر القبلة كما صار ذلك ممكنا بعد دخولها في المسجد . بل كان إن استقبل القبلة صارت عن يساره وحينئذ فإن كانوا يستقبلونه ويستدبرون الغرب فقول الأكثرين أرجح وإن كانوا يستقبلون القبلة حينئذ ويجعلون الحجرة عن يسارهم فقولأبي حنيفة أرجح .
والصلاة تقصر في هذا السفر المستحب باتفاق أئمة المسلمين لم يقل أحد من أئمة المسلمين إن هذا السفر لا تقصر فيه الصلاة . ولا نهى أحد عن السفر إلى مسجده وإن كان بل هذا من أفضل الأعمال الصالحة ولا في شيء من كلامي وكلام غيري نهي عن ذلك ولا نهي عن المسافر إلى مسجده يزور قبره صلى الله عليه وسلم ولا عن المشروع في زيارة سائر القبور ; بل قد ذكرت في غير موضع استحباب زيارة القبور كما { المشروع في زيارة قبور الأنبياء والصالحين أهل البقيع وشهداء أحد ويعلم أصحابه [ ص: 331 ] إذا زاروا القبور أن يقول قائلهم : السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين نسأل الله لنا ولكم العافية . اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم واغفر لنا ولهم } . وإذا كانت زيارة قبور عموم المؤمنين مشروعة فزيارة قبور الأنبياء والصالحين أولى ; لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم له خاصية ليست لغيره من الأنبياء والصالحين وهو أنا أمرنا أن نصلي عليه وأن نسلم عليه في كل صلاة ويتأكد ذلك في الصلاة وعند الأذان وسائر الأدعية وأن نصلي ونسلم عليه عند دخول المسجد - مسجده وغير مسجده - وعند الخروج منه فكل من دخل مسجده فلا بد أن يصلي فيه ويسلم عليه في الصلاة . والسفر إلى مسجده مشروع لكن العلماء فرقوا بينه وبين غيره حتى كره كان النبي صلى الله عليه وسلم يزور مالك رحمه الله أن يقال : زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم ; لأن المقصود الشرعي بزيارة القبور السلام عليهم والدعاء لهم وذلك السلام والدعاء قد حصل على أكمل الوجوه في الصلاة في مسجده وغير مسجده وعند سماع الأذان . وعند كل دعاء . فتشرع الصلاة عليه عند كل دعاء فإنه { أولى بالمؤمنين من أنفسهم } .
ولهذا يسلم المصلي عليه في الصلاة قبل أن يسلم على نفسه وعلى سائر عباد الله الصالحين فيقول : { } . ويصلي عليه فيدعو له قبل أن يدعو لنفسه . وأما غيره فليس عنده مسجد يستحب السفر إليه كما يستحب السفر إلى مسجده وإنما يشرع أن يزار قبره كما شرعت زيارة القبور . وأما هو صلى الله عليه وسلم فشرع السفر إلى مسجده ونهى عما يوهم أنه سفر إلى غير المساجد الثلاثة . ويجب الفرق بين الزيارة الشرعية التي سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الزيارة البدعية التي لم يشرعها بل نهى عنها مثل السلام عليك أيها النبي ورحمة الله [ ص: 332 ] وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين . وقد ثبت عنه في الصحيحين أنه قال : { اتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد والصلاة إلى القبر واتخاذه وثنا المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى } . حتى إن لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : سافر إلى أبا هريرة الطور الذي كلم الله عليه موسى بن عمران عليه السلام فقال له بصرة بن أبي بصرة الغفاري : لو أدركتك قبل أن تخرج لما خرجت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { المسجد الحرام ومسجدي هذا ومسجد بيت المقدس } . فهذه المساجد شرع السفر إليها لعبادة الله فيها بالصلاة والقراءة والذكر والدعاء والاعتكاف ; لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد : والمسجد الحرام مختص بالطواف لا يطاف بغيره .
وما سواه من المساجد إذا أتاها الإنسان وصلى فيها من غير سفر [ ص: 333 ] كان ذلك من أفضل الأعمال كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { } . ولو سافر من بلد إلى بلد مثل أن من تطهر في بيته ثم خرج إلى المسجد كانت خطواته إحداهما تحط خطيئة والأخرى ترفع درجة ; والعبد في صلاة ما دام ينتظر الصلاة ; والملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه : اللهم اغفر له اللهم ارحمه . ما لم يحدث دمشق من مصر لأجل مسجدها أو بالعكس أو سافر إلى سافر إلى مسجد قباء من بلد بعيد لم يكن هذا مشروعا باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم . ولو نذر ذلك لم يف بنذره باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم ; إلا خلاف شاذ عن الليث بن سعد في المساجد وقاله من أصحاب ابن مسلمة مالك في مسجد قباء خاصة . ولكن إذا أتى المدينة استحب له أن يأتي مسجد قباء ويصلي فيه لأن ذلك ليس بسفر ولا بشد رحل لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي مسجد قباء راكبا وماشيا كل سبت ويصلي فيه ركعتين وقال { مسجد قباء كان له كعمرة } رواه من تطهر في بيته ثم أتى الترمذي وقال وابن أبي شيبة سعد بن أبي وقاص وابن عمر : صلاة فيه كعمرة .