وذلك بأن نصدقه في كل ما أخبر به ونطيعه في كل ما أوجبه وأمر به لا يتم الإيمان به إلا بهذا وهذا . ومن ذلك أن نقتدي به في أفعاله التي يشرع لنا أن نقتدي به فما فعله على وجه الوجوب أو الاستحباب أو الإباحة نفعله على وجه الوجوب أو الاستحباب أو الإباحة وهو مذهب جماهير العلماء [ ص: 421 ] إلا ما ثبت اختصاصه به . فإذا قصد عبادة في مكان شرع لنا أن نقصد تلك العبادة في ذلك المكان . فلما قصد السفر إلى ونحن مأمورون باتباعه صلى الله عليه وسلم مكة وقصد العبادة بالمسجد الحرام والصلاة فيه والطواف به وبين الصفا والمروة والصعود على الصفا والمروة والوقوف بعرفة وبالمشعر الحرام ورمي الجمار والوقوف للدعاء عند الجمرتين الأوليين دون الثالثة التي هي جمرة العقبة كان ذلك كله مشروعا لنا إما واجبا وإما مستحبا . ولم يذهب بمكة إلى غير المسجد الحرام ولا سافر إلى الغار الذي مكث فيه لما سافر سفر الهجرة ولا صعد إلى غار حراء الذي كان يتحنث فيه قبل أن يأتيه الوحي وكان ذلك عبادة لأهل مكة قيل إنه سنها لهم عبد المطلب وصلى عقب الطواف ركعتين ولم يصل عقب الطواف بالصفا والمروة شيئا . وحين دخل المسجد الحرام طاف بالبيت وكان الطواف تحية المسجد لم يصل قبله تحية كما تصلى في سائر المساجد كما أنه افتتح برمي جمرة العقبة حين أتى منى وتلك هي العبادة وبعدها نحر هديه ثم حلق رأسه ثم طاف بالبيت .
ولهذا صارت السنة أن أهل منى يرمون ثم يذبحون والرمي لهم بمنزلة صلاة العيد لغيرهم بمنى صلاة عيد ولا جمعة لا بها ولا بعرفة فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل بهما صلاة عيد ولا صلى يوم وليس عرفة جمعة ولا كان في أسفاره يصلي جمعة ولا عيدا . ولهذا [ ص: 422 ] كان عامة العلماء على أن وليس في ذلك إلا نزاع شاذ . وجمهور العلماء على أن العيد أيضا لا يكون إلا حيث تكون الجمعة ; فإن النبي صلى الله عليه وسلم . لم يصل عيدا في السفر ولا كان يصلي في الجمعة لا تصلى في السفر المدينة على عهده إلا عيدا واحدا . ولم يكن أحد يصلي العيد منفردا . وهذا قول جمهور العلماء وفيه نزاع مشهور . ولهذا صار المسلمون بمنى يرمون ثم يذبحون النسك اتباعا لسنته .
صلى الله عليه وسلم فما فعله على وجه التقرب كان عبادة تفعل على وجه التقرب وما أعرض عنه ولم يفعله مع قيام السبب المقتضي لم يكن عبادة ولا مستحبا . وما فعله على وجه الإباحة من غير قصد التعبد به كان مباحا . ومن العلماء من يستحب مشابهته في هذا في الصورة كما كان ابن عمر يفعل وأكثرهم يقول : إنما تكون المتابعة إذا قصدنا ما قصد وأما المشابهة في الصورة من غير مشاركة في القصد والنية فلا تكون متابعة . فما فعله على غير العبادة فلا يستحب أن يفعل على وجه العبادة فإن ذلك ليس بمتابعة ; بل مخالفة . وقد ثبت في الصحيح أنه كان يصلي حيث أدركته الصلاة . وثبت في الصحيح أنه { حين سأله : أي مسجد وضع في الأرض أول ؟ فقال : لأبي ذر المسجد الحرام ثم المسجد الأقصى ثم حيث ما أدركتك الصلاة فصل فإنه مسجد } . وروي في [ ص: 423 ] الصحيح : { قال } . فمن فإن فيه الفضل فقد خالفوا السنة . وقد رأى أدركته الصلاة هو وأصحابه بمكان فتركوا الصلاة فيه وذهبوا إلى مكان آخر لكونه فيه أثر لبعض الأنبياء رضي الله عنه قوما ينتابون مكانا صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما هذا ؟ قالوا : هذا مكان صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال : ومكان صلى فيه رسول الله أتريدون أن تتخذوا آثار أنبيائكم مساجد ؟ إنما هلك عمر بن الخطاب بنو إسرائيل بمثل هذا فمن أدركته الصلاة فيه فليصل فيه وإلا فليذهب .
فمسجده المفضل لما كان يفضل الصلاة فيه كان مستحبا فكيف وقد قال : { المسجد الحرام } وقال : { صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا } وهذه الفضيلة ثابتة له قبل أن تدخل فيه الحجرة : بل كان حينئذ الذين يصلون فيه أفضل ممن صلى فيه إلى يوم القيامة . ولا يجوز أن يظن أنه بعد دخول الحجرة فيه صار أفضل مما كان في حياته وحياة خلفائه الراشدين . بل الفضيلة إن اختلفت الأزمنة والرجال فزمنه وزمن لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : الخلفاء الراشدين أفضل ورجاله أفضل . فالمسجد حينئذ قبل دخول الحجرة فيه كان أفضل إن اختلفت الأمور وإن لم تختلف [ ص: 424 ] فلا فرق . وبكل حال فلا يجوز أن يظن أنه صار بدخول الحجرة فيه أفضل مما كان . وهم لم يقصدوا دخول الحجرة فيه وإنما قصدوا توسيعه بإدخال حجر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فدخلت فيه الحجرة ضرورة مع كراهة من كره ذلك من السلف .
والمقصود أن ما بني لله من المساجد فضيلتها بعبادة الله فيها وحده لا شريك له وبمن عبد الله فيها من الأنبياء والصالحين وببنائها لذلك . كما قال تعالى : { لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين } { أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين } .
كما ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { والأعمال تفضل بنيات أصحابها وطاعتهم لله تعالى وما في قلوبهم من الإيمان بطاعتهم لله } . وبذلك يثابون وعلى ترك ما فرضه الله يعاقبون وبذلك يندفع عنهم بلاء الدنيا والآخرة . وما أصابهم من المصائب فبذنوبهم . قال تعالى : { إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها } وقال تعالى : { ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك } قال العلماء : أي ما أصابك من نصر ورزق وعافية فهو من نعم الله عليك وما أصابك من المصائب فبذنوبك . كما قال تعالى : { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير } كما أنهم متفقون كلهم على أنه لا تكون العبادة إلا لله وحده ولا يكون التوكل إلا عليه وحده ولا تكون الخشية والتقوى إلا لله وحده .
والرسول صلى الله عليه وسلم له حق لا يشركه فيه أحد من الأمة مثل وجوب طاعته في كل ما يوجب ويأمر . قال تعالى : { من يطع الرسول فقد أطاع الله } وقال تعالى : { وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله } . ولهذا كانت مبايعته مبايعة لله . كما قال تعالى : { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله } فإنهم عاقدوه على أن يطيعوه في الجهاد ولا يفروا وإن ماتوا . وهذه الطاعة له هي طاعة لله .
وعلينا أن يكون الرسول أحب إلينا من أنفسنا وآبائنا وأبنائنا وأهلنا وأموالنا كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { } رواه والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين البخاري ومسلم وفي لفظ لمسلم : { وأهله وماله } . وفي البخاري عن عبد الله بن هشام أنه قال : { [ ص: 426 ] فقال له عمر بن الخطاب عمر : يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي . فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك . فقال له عمر : فإنك الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي . فقال النبي صلى الله عليه وسلم الآن يا عمر } . وقد قال تعالى : { كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين } وقد قال تعالى : { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم } وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال { } . : أنا أولى بكل مؤمن من نفسه
وذلك أنه لا نجاة لأحد من عذاب الله ولا وصول له إلى رحمة الله إلا بواسطة الرسول : بالإيمان به ومحبته وموالاته واتباعه . وهو الذي ينجيه الله به من عذاب الدنيا والآخرة . وهو الذي يوصله إلى خير الدنيا والآخرة . فأعظم النعم وأنفعها نعمة الإيمان ولا تحصل إلا به صلى الله عليه وسلم . وهو أنصح وأنفع لكل أحد من نفسه وماله . فإنه الذي يخرج الله به من الظلمات إلى النور لا طريق له إلا هو . وأما نفسه وأهله فلا يغنون عنه من الله شيئا .
وهو دعا الخلق إلى الله بإذن الله . قال تعالى : { إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا } والمخالف له يدعو إلى غير الله بغير إذن الله . ومن اتبع الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه إنما يدعو إلى الله ورسوله . وقوله تعالى { بإذنه } أي بأمره وما أنزله من العلم كما قال تعالى : { قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني } فمن اتبع الرسول دعا إلى الله على بصيرة أي على بينة وعلم يدعو إليه بمنزل من الله بخلاف الذي يأمر بما لا يعلم أو بما لم ينزل به وحيا . كما قال تعالى { ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا وما ليس لهم به علم وما للظالمين من نصير } .
وكل ما أمر الله به أو ندب إليه من حقوقه صلى الله عليه وسلم فإنه لا يختص بحجرته لا من داخل ولا من خارج . بل يفعل في جميع الأمكنة التي شرع فيها . فليس فعل شيء من حقوقه صلى الله عليه وسلم كالإيمان به ومحبته وموالاته وتبليغ العلم عنه والجهاد على ما جاء به وموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه والصلاة والسلام عليه وكل ما يحبه الله ويتقرب إليه ليس شيء من ذلك عند حجرته أفضل منه فيما بعد عن الحجرة لا الصلاة والسلام عليه ولا غير ذلك من حقوقه ; بل قد نهى هو صلى الله عليه وسلم أن يجعل بيته عيدا . فنهى أن يقصد بيته بتخصيص شيء من ذلك . فمن قصد أو اعتقد أن [ ص: 428 ] فعل ذلك عند الحجرة أفضل فهو مخالف له صلى الله عليه وسلم . وهذا مما كان مشروعا كالإيمان به . والشهادة له بأنه رسول الله والصلاة والسلام عليه . وأما ما لم يشرعه الله ولم ينزل به سلطانا إليه بل نهى عنه صلى الله عليه وسلم كدعاء غير الله وعبادتهم من جميع المخلوقات الملائكة والأنبياء وغيرهم والحج إلى المخلوقين وإلى قبورهم : فهذه إنما يأمر بها من ليس معهم بذلك علم ولا وحي منزل من الله فهم يضاهون الذين يعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا وما ليس لهم به علم أو هم نوع منهم .