الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                وقال رحمه الله فصل في مسائل إسحاق بن منصور - وذكره الخلال في " كتاب السنة " في باب مجانبة من قال : القرآن مخلوق - عن إسحاق أنه قال لأبي عبد الله : من قال : القرآن مخلوق ؟ قال : ألحق به كل بلية . قلت : فيظهر العداوة لهم أم يداريهم ؟ قال : أهل خراسان لا يقوون بهم . وهذا الجواب منه مع قوله في القدرية : لو تركنا الرواية عن القدرية لتركناها عن أكثر أهل البصرة ومع ما كان يعاملهم به في المحنة : من الدفع بالتي هي أحسن ومخاطبتهم بالحجج يفسر ما في كلامه وأفعاله من هجرهم والنهي عن مجالستهم ومكالمتهم حتى هجر في زمن غير ما أعيان من الأكابر وأمر بهجرهم لنوع ما من التجهم .

                فإن الهجرة نوع من أنواع التعزير والعقوبة نوع من أنواع الهجرة [ ص: 211 ] التي هي ترك السيئات . فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { المهاجر من هجر السيئات } وقال : { من هجر ما نهى الله عنه } فهذا هجرة التقوى . وفي هجرة التعزير والجهاد : هجرة الثلاثة الذين خلفوا وأمر المسلمين بهجرهم حتى تيب عليهم .

                فالهجرة تارة تكون من نوع التقوى إذا كانت هجرا للسيئات . كما قال تعالى : { وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين } { وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ولكن ذكرى لعلهم يتقون } فبين سبحانه أن المتقين خلاف الظالمين وأن المأمورين بهجران مجالس الخوض في آيات الله هم المتقون . وتارة تكون من نوع الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الحدود وهو عقوبة من اعتدى وكان ظالما .

                وعقوبة الظالم وتعزيره مشروط بالقدرة ; فلهذا اختلف حكم الشرع في نوعي الهجرتين : بين القادر والعاجز وبين قلة نوع الظالم المبتدع وكثرته وقوته وضعفه كما يختلف الحكم بذلك في سائر أنواع الظلم من الكفر والفسوق والعصيان . فإن كلما حرمه الله فهو ظلم ; إما في حق الله فقط وإما في حق عباده وإما فيهما . وما أمر به من هجر الترك والانتهاء وهجر العقوبة والتعزير إنما هو إذا لم يكن فيه مصلحة [ ص: 212 ] دينية راجحة على فعله وإلا فإذا كان في السيئة حسنة راجحة لم تكن سيئة وإذا كان في العقوبة مفسدة راجحة على الجريمة لم تكن حسنة ; بل تكون سيئة ; وإن كانت مكافئة لم تكن حسنة ولا سيئة فالهجران قد يكون مقصوده ترك سيئة البدعة التي هي ظلم وذنب وإثم وفساد وقد يكون مقصوده فعل حسنة الجهاد والنهي عن المنكر وعقوبة الظالمين لينزجروا ويرتدعوا . وليقوى الإيمان والعمل الصالح عند أهله . فإن عقوبة الظالم تمنع النفوس عن ظلمه وتحضها على فعل ضد ظلمه : من الإيمان والسنة ونحو ذلك . فإذا لم يكن في هجرانه انزجار أحد ولا انتهاء أحد ; بل بطلان كثير من الحسنات المأمور بها لم تكن هجرة مأمورا بها كما ذكره أحمد عن أهل خراسان إذ ذاك : أنهم لم يكونوا يقوون بالجهمية . فإذا عجزوا عن إظهار العداوة لهم سقط الأمر بفعل هذه الحسنة وكان مداراتهم فيه دفع الضرر عن المؤمن الضعيف ولعله أن يكون فيه تأليف الفاجر القوي . وكذلك لما كثر القدر في أهل البصرة فلو ترك رواية الحديث عنهم لا ندرس العلم والسنن والآثار المحفوظة فيهم . فإذا تعذر إقامة الواجبات من العلم والجهاد وغير ذلك إلا بمن فيه بدعة مضرتها دون مضرة ترك ذلك الواجب : كان تحصيل مصلحة الواجب مع مفسدة مرجوحة معه خيرا من العكس . ولهذا كان الكلام في هذه المسائل فيه تفصيل .

                [ ص: 213 ] وكثير من أجوبة الإمام أحمد وغيره من الأئمة خرج على سؤال سائل قد علم المسئول حاله أو خرج خطابا لمعين قد علم حاله فيكون بمنزلة قضايا الأعيان الصادرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما يثبت حكمها في نظيرها .

                فإن أقواما جعلوا ذلك عاما فاستعملوا من الهجر والإنكار ما لم يؤمروا به فلا يجب ولا يستحب وربما تركوا به واجبات أو مستحبات وفعلوا به محرمات . وآخرون أعرضوا عن ذلك بالكلية فلم يهجروا ما أمروا بهجره من السيئات البدعية ; بل تركوها ترك المعرض ; لا ترك المنتهي الكاره أو وقعوا فيها وقد يتركونها ترك المنتهي الكاره ولا ينهون عنها غيرهم ولا يعاقبون بالهجرة ونحوها من يستحق العقوبة عليها فيكونون قد ضيعوا من النهي عن المنكر ما أمروا به إيجابا أو استحبابا فهم بين فعل المنكر أو ترك النهي عنه وذلك فعل ما نهوا عنه وترك ما أمروا به . فهذا هذا . ودين الله وسط بين الغالي فيه والجافي عنه . والله سبحانه أعلم .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية