فصل : وأما قولهم : الاستدلال لا بد فيه من مقدمتين بلا زيادة ولا نقصان فهذا قول باطل طردا وعكسا وذلك أن احتياج المستدل إلى المقدمات مما يختلف فيه حال الناس فمن الناس من لا يحتاج إلا إلى مقدمة واحدة لعلمه بما سوى ذلك . كما أن منهم من لا يحتاج في علمه بذلك إلى استدلال بل قد يعلمه بالضرورة ومنهم من يحتاج إلى مقدمتين ومنهم من يحتاج إلى ثلاث ومنهم من يحتاج إلى أربع وأكثر فمن أراد أن يعرف أن هذا المسكر المعين محرم . فإن كان يعرف أن كل مسكر محرم ولكن لا يعرف هل هذا المسكر المعين يسكر أم لا لم يحتج إلا إلى مقدمة واحدة . وهو أن يعلم أن هذا مسكر فإذا قيل له هذا حرام فقال ما الدليل عليه ؟ فقال المستدل : الدليل على ذلك أنه مسكر تم المطلوب .
وكذلك لو تنازع اثنان في بعض أنواع الأشربة : هل هو مسكر أم لا ؟ [ ص: 160 ] كما يسأل الناس كثيرا عن بعض الأشربة ولا يكون السائل ممن يعلم أنها تسكر أو لا تسكر ولكن قد علم أن كل مسكر حرام فإذا ثبت عنده بخبر من يصدقه أو بغير ذلك من الأدلة أنه مسكر علم تحريمه وكذلك سائر ما يقع الشك في اندراجه تحت قضية كلية من الأنواع والأعيان مع العلم بحكم تلك القضية كتنازع الناس في النرد والشطرنج : هل هما من الميسر أم لا ؟ وتنازعهم في النبيذ المتنازع فيه هل هو من الخمر أم لا ؟ وتنازعهم في الحلف بالنذر والطلاق والعتاق هل هو داخل في قوله : { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } أم لا ؟ وتنازعهم في قوله : { أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح } هل هو الزوج أو الولي المستقل ؟ وأمثال ذلك .
وقد يحتاج الاستدلال إلى مقدمتين لمن لم يعلم أن النبيذ المسكر المتنازع فيه محرم ولم يعلم أن هذا المعين مسكر فهو لا يعلم أنه محرم حتى يعلم أنه مسكر ويعلم أن كل مسكر حرام . وقد يعلم أن هذا مسكر ويعلم أن كل مسكر خمر لكن لم يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم الخمر لقرب عهده بالإسلام أو لنشأته بين جهال أو زنادقة يشكون في ذلك . أو يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { } أو يعلم أن هذا خمر وأن النبي صلى الله عليه وسلم حرم الخمر ; لكن لم يعلم أن كل مسكر حرام محمدا رسول الله أو لم يعلم أنه حرمها على جميع المؤمنين ; بل ظن أنه أباحها لبعض الناس فظن أنه منهم كمن ظن أنه أباح شربها للتداوي أو غير ذلك . فهذا لا يكفيه في العلم [ ص: 161 ] بتحريم هذا النبيذ المسكر تحريما عاما إلا أن يعلم أنه مسكر وأنه خمر . وأن النبي صلى الله عليه وسلم حرم كل مسكر . وأنه رسول الله حقا فما حرمه حرمه الله وأنه حرمه تحريما عاما لم يبحه للتداوي أو للتلذذ .
ومما يبين أن باطل أنهم قالوا في حد القياس الذي يشمل البرهاني والخطابي والجدلي والشعري والسوفسطائي : إنه قول مؤلف من أقوال أو عبارة عما ألف من أقوال إذا سلمت لزم عنها لذاتها قول آخر . قالوا : واحترزنا بقولنا : من أقوال عن القضية الواحدة التي تستلزم لذاتها صدق عكسها وعكس نقيضها وكذب نقضها وليست قياسا . قالوا : ولم نقل مؤلف من مقدمات لأنا لا يمكننا تعريف المقدمة من حيث هي مقدمة إلا بكونها جزء القياس فلو أخذناها في حد القياس كان دورا . والقضية الخبرية إذا كانت جزء القياس سموها مقدمة وإن كانت مستفادة بالقياس سموها نتيجة وإن كانت مجردة عن ذلك سموها قضية وتسمى أيضا قضية مع تسميتها نتيجة ومقدمة . وهي الخبر وليست هي المبتدأ والخبر في اصطلاح النحاة . بل أعم منه . فإن المبتدأ والخبر لا يكون إلا جملة اسمية والقضية تكون جملة اسمية وفعلية كما لو قيل قد كذب زيد ومن كذب استحق التعزير . تخصيص الاستدلال بمقدمتين
والمقصود هنا أنهم أرادوا بالقول - في قولهم القياس قول مؤلف من أقوال - القضية التي هي جملة تامة خبرية لم يريدوا بذلك المفرد الذي هو [ ص: 162 ] الحد فإن : أصغر وأوسط وأكبر كما إذا قيل : النبيذ المتنازع فيه مسكر وكل مسكر حرام فالنبيذ والمسكر والحرام كل منها مفرد وهي الحدود في القياس . فليس مرادهم بالقول هذا بل مرادهم أن كل قضية قول ; كما فسروا مرادهم بذلك . القياس مشتمل على ثلاثة حدود
ولهذا قالوا : القياس قول مؤلف من أقوال ; إذا سلمت لزم عنها لذاتها قول آخر . واللازم إنما هي النتيجة وهي قضية وخبر وجملة تامة وليست مفردا . ولذلك قالوا : القياس قول مؤلف ; فسموا مجموع القضيتين قولا . وإذا كانوا قد جعلوا القياس مؤلفا من أقوال وهي القضايا لم يجب أن يراد بذلك قولان فقط ; لأن لفظ الجمع إما أن يكون متناولا للاثنين فصاعدا كقوله : { فإن كان له إخوة فلأمه السدس } وإما أن يراد به الثلاثة فصاعدا وهو الأصل عند الجمهور . ولكن قد يراد به جنس العدد فيتناول الاثنين فصاعدا ولا يكون الجمع مختصا باثنين .
فإذا قالوا : هو مؤلف من أقوال إن أرادوا جنس العدد كان هذا المعنى من اثنين فصاعدا فيجوز أن يكون مؤلفا من ثلاث مقدمات وأربع مقدمات فلا يختص بالاثنين . وإن أرادوا الجمع الحقيقي . لم يكن مؤلفا إلا من ثلاث فصاعدا وهم قطعا ما أرادوا هذا . فلم يبق إلا الأول .
فإذا قيل : هم يلتزمون ذلك . ويقولون : نحن نقول أقل ما يكون القياس [ ص: 163 ] من مقدمتين . وقد يكون من مقدمات .
فيقال : هذا خلاف ما في كتبكم فإنكم لا تلتزمون إلا مقدمتين فقط . وقد صرحوا أن القياس الموصل إلى المطلوب سواء كان اقترانيا أو استثنائيا لا ينقص عن مقدمتين ولا يزيد عليهما وعللوا ذلك بأن المطلوب المتحد لا يزيد على جزأين مبتدأ وخبر . فإن كان القياس اقترانيا فكل واحد من جزأي المطلوب لا بد وأن يناسب مقدمة منه : أي يكون فيها إما مبتدأ وإما خبرا ولا يكون هو نفس المقدمة .
قالوا : وليس للمطلوب أكثر من جزأين فلا يفتقر إلى أكثر من مقدمتين . وإن كان القياس استثنائيا فلا بد فيه من مقدمة شرطية متصلة أو منفصلة تكون مناسبة لكل المطلوب أو نقيضه فلا بد من مقدمة استثنائية فلا حاجة إلى ثالثة .
قالوا : لكن ربما أدرج في القياس قول زائد على مقدمتي القياس إما غير متعلق بالقياس أو متعلق به والمتعلق بالقياس إما لترويج الكلام وتحسينه أو لبيان المقدمتين أو إحداهما . ويسمون هذا . القياس المركب
قالوا : وحاصله يرجع إلى أقيسة متعددة سيقت لبيان مطلوب واحد ; إلا أن القياس المبين للمطلوب بالذات منها ليس إلا واحدا والباقي [ ص: 164 ] لبيان مقدمات القياس . قالوا : ربما حذفوا بعض مقدمات القياس إما تعويلا على فهم الذهن لها أو لترويج المغلطة حتى لا يطلع على كذبها عند التصريح بها .
قالوا : ثم إن كانت الأقيسة لبيان المقدمات قد صرح فيها بنتائجها فيسمى القياس مفصولا وإلا فموصول . ومثلوا الموصول بقول القائل : كل إنسان حيوان وكل حيوان جسم وكل جسم جوهر . فكل إنسان جوهر . والمفصول بقولهم : كل إنسان حيوان وكل حيوان جسم فكل إنسان جسم ثم يقول كل حيوان جسم وكل جسم جوهر فكل إنسان حيوان فيلزم منهما أن كل إنسان جوهر .
فيقال لهم : أما المطلوب الذي لا يزيد على جزأين فذاك في المنطوق به . والمطلوب في العقل إنما هو شيء واحد لا اثنان وهو ثبوت النسبة الحكمية أو انتفاؤها . وإن شئت قلت : اتصاف الموصوف بالصفة نفيا أو إثباتا وإن شئت قلت : نسبة المحمول إلى الموضوع والخبر إلى المبتدأ نفيا وإثباتا ; وأمثال ذلك من العبارات الدالة على المعنى الواحد المقصود بالقضية . فإذا كانت النتيجة أن النبيذ حرام أو ليس بحرام ; أو الإنسان حساس أو ليس بحساس ونحو ذلك . فالمطلوب ثبوت التحريم للنبيذ أو انتفاؤه وكذلك ثبوت الحس للإنسان أو انتفاؤه . والمقدمة الواحدة إذا ناسبت ذلك [ ص: 165 ] المطلوب حصل بها المقصود . وقولنا النبيذ خمر يناسب المطلوب وكذلك قولنا الإنسان حيوان .
فإذا كان الإنسان يعلم أن كل خمر حرام ولكن يشك في النبيذ المتنازع فيه هل يسمى في لغة الشارع خمرا ؟ فقيل النبيذ حرام ; لأنه قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { } كانت القضية وهي قولنا : قد قال النبي صلى الله عليه وسلم { كل مسكر خمر } يفيد تحريم النبيذ ; وإن كان نفس قوله قد تضمن قضية أخرى . والاستدلال بذلك مشروط بتقديم مقدمات معلومة عند المستمع وهي أن ما صححه أهل العلم بالحديث فقد وجب التصديق بأن النبي صلى الله عليه وسلم قاله وأن ما حرمه الرسول صلى الله عليه وسلم فهو حرام ونحو ذلك . فلو لزم أن نذكر كل ما يتوقف عليه العلم وإن كان معلوما كانت المقدمات أكثر من اثنتين ; بل قد تكون أكثر من عشر . أن كل مسكر خمر
وعلى ما قالوه فينبغي لكل من استدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول : النبي حرم ذلك وما حرمه فهو حرام . فهذا حرام وكذلك : يقول النبي أوجبه وما أوجبه النبي فقد وجب فإذا احتج على تحريم الأمهات والبنات ونحو ذلك ; يحتاج أن يقول : إن الله حرم هذا في القرآن وما حرمه الله فهو حرام . وإذا احتج على وجوب الصلاة والزكاة والحج بمثل قول الله : { ولله على الناس حج البيت } يقول : إن الله أوجب الحج في [ ص: 166 ] كتابه وما أوجبه الله فهو واجب . وأمثال ذلك مما يعتبره العقلاء لكنة وعيا وإيضاحا للواضح وزيادة قول لا حاجة إليها .
وهذا التطويل الذي لا يفيد في قياسهم نظير تطويلهم في حدودهم : كقولهم في حد الشمس : إنها كوكب تطلع نهارا . وأمثال ذلك من الكلام الذي لا يفيد إلا تضييع الزمان وإتعاب الأذهان وكثرة الهذيان . ثم إن الذين يتبعونهم في حدودهم وبراهينهم لا يزالون مختلفين في تحديد الأمور المعروفة بدون تحديدهم ويتنازعون في البرهان على أمور مستغنية عن براهينهم .