أن يتقوه حق تقاته، والتقوى وصية الله للأولين والآخرين، قال تعالى: حق الله على عباده ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله
أن يجعل العبد بينه وبين ما يخافه ويحذره وقاية تقيه منه . فتقوى العبد لربه أن يجعل بينه وبين ما يخشاه من ربه من غضبه وسخطه وعقابه وقاية تقيه من ذلك، وهو فعل طاعته واجتناب معاصيه . وتارة تضاف التقوى إلى اسم الله عز وجل، كقوله تعالى: وأصل التقوى: واتقوا الله الذي إليه تحشرون وقوله: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون فإذا أضيفت التقوى إليه سبحانه وتعالى، فالمعنى: اتقوا سخطه وغضبه . وهو أعظم ما يتقى، وعن ذلك ينشأ عقابه الدنيوي والأخروي . قال تعالى: ويحذركم الله نفسه وقال تعالى: هو أهل التقوى وأهل المغفرة فهو [ ص: 361 ] سبحانه أهل أن يخشى ويهاب، ويجل ويعظم في صدور عباده حتى يعبدوه ويطيعوه، لما يستحقه من الإجلال والإكرام، وصفات الكبرياء والعظمة وقوة البطش، وشدة البأس . وفي عن الترمذي أنس هو أهل التقوى وأهل المغفرة قال: "قال الله تعالى: أنا أهل أن أتقى، فمن اتقاني فلم يجعل معي إلها آخر، فأنا أهل أن أغفر له " . وتارة تضاف التقوى إلى عقاب الله وإلى مكانه، كالنار، أو إلى زمانه . كيوم القيامة، كما قال تعالى: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآية: واتقوا النار التي أعدت للكافرين وقال تعالى: فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين وقال تعالى: واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ويدخل في التقوى الكاملة فعل الواجبات وترك المحرمات والشبهات . وربما دخل فيها بعد ذلك فعل المندوبات، وترك المكروهات، وهي أعلى درجات التقوى، قال الله تعالى: الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنـزل إليك وما أنـزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون
وقال تعالى: ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون [ ص: 362 ] قال : ينادى يوم القيامة: أين المتقون؟ فيقومون في كنف من الرحمن لا يحتجب منهم ولا يستتر، قالوا له: من المتقون؟ قال: قوم اتقوا الشرك وعبادة الأوثان، وأخلصوا لله بالعبادة . وقال معاذ بن جبل : المتقون الذين يحذرون من الله عقوبته في ترك ما يعرفون من الهدى، ويرجون رحمته في التصديق بما جاء به . ابن عباس
وقال المتقون اتقوا ما حرم عليهم، وأدوا ما افترض عليهم . الحسن:
وقال : ليس تقوى الله بصيام النهار، ولا بصيام الليل . والتخليط فيما بين ذلك، ولكن تقوى الله ترك ما حرم الله، وأداء ما افترض الله، فمن رزق بعد ذلك خيرا، فهو خير إلى خير . عمر بن عبد العزيز
وقال طلق بن حبيب : التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله .
وعن قال: تمام التقوى أن يتقي الله العبد حتى يتقيه من مثقال ذرة، حتى يترك بعض ما يرى أنه حلال خشية أن يكون حراما يكون حجابا بينه وبين الحرام، فإن الله قد بين للعباد الذي يصيرهم إليه فقال: أبي الدرداء فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره فلا تحقرن شيئا من الخير أن تفعله، ولا شيئا من الشر أن تتقيه .
وقال ما زالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيرا من الحلال مخافة الحرام . وقال الحسن: : إنما سموا متقين، لأنهم اتقوا ما لا يتقى . الثوري
وقال موسى بن أعين: المتقون تنزهوا عن أشياء من الحلال مخافة أن يقعوا [ ص: 363 ] في الحرام، فسماهم الله متقين .
وقد سبق حديث: وحديث: "لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس " . "من اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه " .
وقال : المتقي أشد محاسبة لنفسه، من الشريك الشحيح لشريكه . ميمون بن مهران
وقال في قوله تعالى: ابن مسعود اتقوا الله حق تقاته قال: أن يطاع، فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، وأن يشكر، فلا يكفر .
وخرجه مرفوعا، والموقوف أصح، وشكره يدخل فيه جميع فعل الطاعات . ومعنى "ذكره فلا ينسى": ذكر العبد بقلبه لأوامر الله في حركاته وسكناته وكلماته فيمتثلها، ولنواهيه في ذلك كله فيجتنبها . وقد يغلب استعمال التقوى على اجتناب المحرمات، الحاكم
كما قال وسئل عن التقوى، فقال: هل أخذت طريقا ذا شوك؟ قال: نعم، قال: فكيف صنعت؟ قال: إذا رأيت الشوك عدلت عنه، أو جاوزته، أو قصرت عنه، قال: ذاك التقوى . وأخذ هذا المعنى أبو هريرة ابن المعتز فقال:
خل الذنوب صغيرها . وكبيرها فهو التقى
[ ص: 364 ] واصنع كماش فوق أر .
ض الشوك يحذر ما يرى لا تحقرن صغيرة .
إن الجبال من الحصى
أن يعلم العبد ما يتقى ثم يتقي . وأصل التقوى:
قال : تمام التقوى أن تبتغي علم ما لم تعلم منها إلى ما علمت منها . عون بن عبد الله
وذكر عن معروف الكرخي بكر بن خنيس، قال: كيف يكون متقيا من لا يدري ما يتقي؟
ثم قال إذا كنت لا تحسن تتقي أكلت الربا، وإذا كنت لا تحسن تتقي لقيتك امرأة فلم تغض بصرك، وإذا كنت لا تحسن تتقي وضعت سيفك على عاتقك . وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - معروف: لمحمد بن مسلمة: "إذا رأيت أمتي قد اختلفت، فاعمد إلى سيفك فاضرب به أحدا" .
ثم قال ومجلسي هذا لعله كان ينبغي لنا أن نتقيه، ثم قال: ومجيئكم معي من المسجد إلى هاهنا كان ينبغي لنا أن نتقيه، أليس جاء في الحديث: معروف: "إنه فتنة للمتبوع، مذلة للتابع " . يعني: مشي الناس خلف الرجل . وفي الجملة، فالتقوى هي وصية الله لجميع خلقه، ووصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأمته، وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا بعث أميرا على سرية أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله، وبمن معه من المسلمين خيرا . [ ص: 365 ] وفي حديث ولما خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع يوم النحر وصى الناس بتقوى الله وبالسمع والطاعة لأئمتهم . ولما وعظ الناس، وقالوا له: كأنها موعظة مودع فأوصنا، قال: "أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة" . الطويل الذي خرجه أبي ذر وغيره: ابن حبان قلت: يا رسول الله، أوصني، قال: "أوصيك بتقوى الله، فإنه رأس الأمر كله " . وخرج من حديث الإمام أحمد ، قال . أبي سعيد الخدري قلت: يا رسول الله، أوصني، قال: "أوصيك بتقوى الله، فإنه رأس كل شيء، وعليك بالجهاد، فإنه رهبانية الإسلام" .
وخرجه غيره ولفظه: قال: وفي "عليك بتقوى الله، فإنها جماع كل خير" . عن الترمذي يزيد بن سلمة: ولم يزل السلف الصالح يتواصون بها، كان أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يا رسول الله، إني سمعت منك حديثا كثيرا فأخاف أن ينسيني أوله آخره، فحدثني بكلمة تكون جماعا، قال: "اتق الله فيما تعلم " . - رضي الله عنه -، يقول في خطبته: أما بعد، فإني أوصيكم بتقوى الله، وأن تثنوا عليه بما هو أهله، [ ص: 366 ] وأن تخلطوا الرغبة بالرهبة، وتجمعوا الإلحاف بالمسألة، فإن الله عز وجل أثنى على أبو بكر الصديق زكريا وأهل بيته، فقال: إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين ولما حضرته الوفاة، وعهد إلى ، دعاه فوصاه بوصية، وأول ما قال له: اتق الله يا عمر . وكتب عمر إلى ابنه عمر : أما بعد، فإني أوصيك بتقوى الله عز وجل، فإنه من اتقاه وقاه، ومن أقرضه جزاه، ومن شكره زاده، فاجعل التقوى نصب عينيك وجلاء قلبك . عبد الله
واستعمل رجلا على سرية، فقال له: أوصيك بتقوى الله عز وجل الذي لا بد لك من لقائه، ولا منتهى لك دونه، وهو يملك الدنيا والآخرة . علي بن أبي طالب
وكتب إلى رجل: أوصيك بتقوى الله عز وجل التي لا يقبل غيرها، ولا يرحم إلا أهلها، ولا يثيب إلا عليها، فإن الواعظين بها كثير، والعاملين بها قليل، جعلنا الله وإياك من المتقين . ولما ولي خطب، فحمد الله، وأثنى عليه، وقال: أوصيكم بتقوى الله عز وجل، فإن تقوى الله عز وجل خلف من كل شيء، وليس من تقوى الله خلف . عمر بن عبد العزيز
وقال رجل ليونس بن عبيد: أوصني، فقال: أوصيك بتقوى الله والإحسان . فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون . [ ص: 367 ] وقال له رجل يريد الحج: أوصني، فقال له: اتق الله، فمن اتقى الله فلا وحشة عليه .
وقيل لرجل من التابعين عند موته: أوصنا، فقال: أوصيكم بخاتمة سورة النحل: إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون وكتب رجل من السلف إلى أخ له: أوصيك بتقوى الله، فإنها أكرم ما أسررت، وأزين ما أظهرت، وأفضل ما ادخرت، أعاننا الله وإياك عليها . وأوجب لنا ولك ثوابها .
وكتب رجل إلى أخ له: أوصيك وأنفسنا بالتقوى، فإنها خير زاد الآخرة والأولى، واجعلها إلى كل خير سبيلك، ومن كل شر مهربك، فقد توكل الله عز وجل لأهلها بالنجاة مما يحذرون، والرزق من حيث لا يحتسبون .
وقال : كنت إذا أردت الخروج، قلت شعبة للحكم: ألك حاجة؟ فقال: أوصيك بما أوصى به النبي - صلى الله عليه وسلم - : معاذ بن جبل "اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن " .
وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول في دعائه: "اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفة والغنى " .