قوله تعالى: ومن لم يحكم بما أنـزل الله فأولئك هم الكافرون
خرج البخاري : من حديث: ومسلم ، عن مالك ، عن [ ص: 426 ] زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ابن عباس "أريت النار، فرأيت أكثر أهلها النساء، بكفرهن "، قيل: أيكفرن؟ قال: "يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر، ثم رأت منك شيئا، قالت: ما رأيت منك خيرا قط " .
وقال : كفر دون كفر . البخاري
والكفر، قد يطلق ويراد به الكفر الذي لا ينقل عن الملة، مثل كفران العشير ونحوه . وهذا عند إطلاق الكفر، فأما إن ورد الكفر مقيدا بشيء، فلا إشكال في ذلك، كقوله تعالى: فكفرت بأنعم الله وإنما المراد هاهنا: أنه قد يرد إطلاق الكفر، ثم يفسر بكفر غير ناقل عن الملة . وهذا كما قال ، في قوله تعالى: ابن عباس ومن لم يحكم بما أنـزل الله فأولئك هم الكافرون قال: ليس بالكفر الذي يذهبون إليه، إنه ليس بكفر ينقل عن الملة، ومن لم يحكم بما أنـزل الله فأولئك هم الكافرون كفر دون كفر . خرجه . وقال: صحيح الإسناد . وعنه في هذه الآية، قال: هو به كفر، وليس كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر . [ ص: 427 ] وكذا قال الحاكم وغيره: كفر دون كفر . عطاء
وقال : الكفر كفران: كفر بالله، وكفر بالمنعم . النخعي
واستدل لذلك بحديث البخاري الذي خرجه هاهنا، وهو قطعة من حديث طويل، خرجه في "أبواب الكسوف "، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أطلق على النساء الكفر، فسئل عنه، ففسره بكفر العشير . ابن عباس
وحديث في هذا المعنى يشبه حديث أبي سعيد . وقد خرج هذا المعنى من حديث ابن عباس ، ابن عمر - أيضا . وفي المعنى - أيضا -: حديث وأبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ابن مسعود "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر" .
وقد خرجه في موضع آخر . وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: البخاري وقوله: "لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض " . وللعلماء في هذه الأحاديث - وما أشبهها - مسالك متعددة: منهم: من حملها على من فعل ذلك مستحلا لذلك . وقد حمل "من قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما" . حديث: مالك على الحرورية، المعتقدين لكفر المسلمين بالذنوب - نقله عنه "من قال لأخيه: يا كافر" أشهب . [ ص: 428 ] وكذلك حمل حديث: إسحاق بن راهويه على المستحل لذلك: نقله عنه "من أتى حائضا - أو امرأة - في دبرها فقد كفر" حرب وإسحاق الكوسج .
ومنهم: من يحملها على التغليظ والكفر الذي لا ينقل عن الملة، كما تقدم عن ابن عباس . وعطاء
ونقل إسماعيل الشالنجي عن ، وذكر له قول أحمد المتقدم . وسأله: ما هذا الكفر؟ قال ابن عباس : هو كفر لا ينقل عن الملة، مثل الإيمان بعضه دون بعض، فكذلك الكفر، حتى يجيء من ذلك أمر لا يختلف فيه . أحمد
قال : واختلف من قال من أهل الحديث: إن مرتكب الكبائر مسلم وليس بمؤمن: هل يسمى كافرا كفرا لا ينقل عن الملة؟ كما قال محمد بن نصر المروزي : كفر دون كفر، وقال عطاء ابن عباس : كفر لا ينقل عن الملة; على قولين لهم . وطاووس
قال: وهما مذهبان في الجملة محكيان عن ، في موافقيه من أهل الحديث . قلت: قد أنكر أحمد بن حنبل - في رواية أحمد - ما روي عن المروذي أن شارب الخمر يسمى كافرا، ولم يثبته عنه، مع أنه قد روي عنه من وجوه كثيرة، وبعضها إسناده حسن . وروي عنه مرفوعا . وكذلك أنكر عبد الله بن عمرو جواز إطلاق كفر النعمة على أهل الكبائر . ونصب الخلاف في ذلك مع القاضي أبو يعلى الزيدية من الشيعة والإباضية من الخوارج . [ ص: 429 ] ورواية إسماعيل الشالنجي عن قد توافق ذلك، فمن هنا حكى أحمد عن محمد بن نصر في ذلك مذهبين . والذي ذكره أحمد القاضي أبو عبد الله بن حامد شيخ القاضي أبي يعلى، عن : جواز أحمد وقد حكاه عن إطلاق الكفر والشرك على بعض الذنوب التي لا تخرج عن الملة، . وقد روي عن أحمد ، أنه سئل: هل كنتم تسمون شيئا من الذنوب الكفر أو الشرك؟ قال: معاذ الله، ولكنا نقول: مؤمنين مذنبين . خرجه جرير بن عبد الله وغيره . وكان محمد بن نصر ينهى أن يقال لأهل عمار الشام الذين قاتلوهم بصفين كفروا . وقال: قولوا: فسقوا، قولوا: ظلموا . وهذا قول ، وغيره من الأئمة . ابن المبارك
وقد ذكر بعض الناس أن الإيمان قسمان:
أحدهما: إيمان بالله، وهو الإقرار والتصديق به .
والثاني: إيمان لله، فنقيض الإيمان الأول الكفر، ونقيض الإيمان الثاني: الفسق، وقد يسمى كفرا، ولكن لا ينقل عن الملة .
وقد وردت نصوص، اختلف العلماء في حملها على الكفر الناقل عن الملة، أو على غيره، مثل الأحاديث الواردة في كفر تارك الصلاة . وتردد فيما ورد في إتيان المرأة في دبرها، أنه كفر: هل هو مخرج عن الدين بالكلية ، أم لا؟ [ ص: 430 ] ومن العلماء: من يتوقى الكلام في هذه النصوص تورعا، ويمرها كما جاءت من غير تفسير، مع اعتقادهم أن المعاصي لا تخرج عن الملة . إسحاق بن راهويه
وحكاه ابن حامد رواية عن . أحمد
ذكر صالح بن وأبو أحمد الحارث : أن سئل عن حديث أحمد : كفر بالله تبري من نسب وإن دق، وكفر بالله ادعاء إلى نسب لا يعلم . أبي بكر الصديق
قال أحدهما: قال : قد روي هذا عن أحمد ، والله أعلم أبي بكر
، وقال الآخر: قال: ما أعلم، قد كتبناها هكذا .
قال أبو الحارث : قيل حديث لأحمد: : أبي هريرة فقال: قد روي هذا، ولم يزد على هذا الكلام . وكذا قال "من أتى النساء في أعجازهن فقد كفر" ، لما سئل عن قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: الزهري وما أشبهه من الحديث - فقال: من الله العلم، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم . "ليس منا من لطم الخدود"
ونقل عبدوس بن مالك العطار، عن ، أنه ذكر هذه الأحاديث التي ورد فيها لفظ الكفر، فقال: نسلمها، وإن لم نعرف تفسيرها، ولا نتكلم فيه، ولا نفسرها إلا بما جاءت . ومنهم: من فرق بين إطلاق لفظ الكفر، فجوزه في جميع أنواع الكفر . سواء كان ناقلا عن الملة أو لم يكن، وبين إطلاق اسم الكافر، فمنعه، إلا [ ص: 431 ] في الكفر الناقل عن الملة، لأن اسم الفاعل لا يشتق إلا من الفعل الكامل . ولذلك قال في اسم المؤمن: لا يقال إلا للكامل الإيمان، فلا يستحقه من كان مرتكبا للكبائر حال ارتكابه، وإن كان يقال: قد آمن، ومعه إيمان . وهذا اختيار أحمد ابن قتيبة . وقريب منه: قول من قال: إن أهل الكتاب، يقال: إنهم أشركوا، وفيهم شرك، كما قال تعالى: سبحانه عما يشركون ولا يدخلون في اسم المشركين عند الإطلاق، بل يفرق بينهم وبين المشركين، كما في قوله تعالى: لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين فلا تدخل الكتابية في قوله تعالى: ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن وقد نص على ذلك وغيره . الإمام أحمد
وكذلك كره أكثر السلف، أن يقول الإنسان: أنا مؤمن، حتى يقول: إن شاء الله، وأباحوا أن يقول: آمنت بالله .
وهذا القول حسن، لولا ما تأوله وغيره في قوله تعالى: ابن عباس ومن لم يحكم بما أنـزل الله فأولئك هم الكافرون والله أعلم .