[ ص: 568 ] تطهير النفس من المال الخبيث
ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون
* * *
بعد أن بين سبحانه وتعالى الصوم وما فيه من تهذيب النفس - بين سبحانه وتعالى أن من التهذيب النفسي أو بث التقوى في روح الجماعة الإسلامية نزاهة المال عن الخبث كنزاهة النفس ; ولذا عطف على الأوامر والنواهي الخاصة بالصوم النهي عن أكل أموال الناس بالباطل ، فقال تعالى : ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام
الواو هنا عاطفة على ما سبق من إباحة ونهي ، في قوله ، فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله وما تبع ذلك من صيغة أمر تبيح الأكل والشرب ، ونهي عن المباشرة ، وجاء النهي بعد ذلك عن أكل مال الناس بالباطل ، لأنه من جنس الأوامر والنواهي السابقة ، فإذا كانت لنزاهة النفس وطهارتها ، فالنهي عن أكل مال الناس بالباطل ، لنزاهة النفس والمجتمع وطهارته من أسباب النزاع ، فالنواهي تتدرج في الخصوص الإسلامية في هذه الآيات من إبعاد نفوس الآحاد عن الإرجاس في العبادات ، إلى النهي للجماعة كلها عما يفني الجماعات من أخذ المال بالباطل ; لأنه قتل لها كما قال تعالى في آية أخرى : يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما
فأخذ أموال الناس بالباطل ، وشيوع ذلك ، واستمراؤه يقتل الأمة ; لأنه يشيع فيها الفساد ، ضياع الحقوق ، وألا يحترم العدل ، ويسود الظلم ، وبذلك تفنى الأمم ، وتذهب قوتها أمام من يتربص بها الدوائر .
[ ص: 569 ] وقوله : ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل أمر عام للجماعة الإسلامية ، بأن يكون التعامل المالي بينها على أساس من احترام كل حق الآخرين ، وألا يأخذ مالا إلا بحقه ، فلا يأخذه بربا أو غش أو تدليس أو بميسر ، أيا كان شكله ، ولا بسرقة أو غصب .
وعبر سبحانه وتعالى عن الأخذ بالأكل ; لأن أظهر مظاهر الانتفاع بالمال الأكل حلالا أو حراما وهو أشد ما يطلب المال لأجله ، ولأن الأكل إن لم يكن مصدره حلالا كان كالنار وتدخل بطن الآكل .
وقال تعالى : أموالكم للإشارة إلى أن مال الآحاد مال الأمة ، إن نما قويت ، وإن ضعف ضعفت ، وإن كان حلالا كان طيبا، كان عزا ، والإشارة إلى وجوب التعاون بين الناس في جعله لخير الجماعة ، وتنميته لعمومها ، وللناس كافة مع بقاء كل ملك كان على ملكيته لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه " .
وقوله تعالى : " بينكم " ، أي متبادلا بينكم منتقلا من حيز إلى حيز بالحق ، وفي ذلك إشارة إلى أنه لا يصح أن ينقل بينكم إلا بالحق ، فلا يصح أن ينتقل من حيز إلى حيز إلا بالحق ولا يجوز أن ينتقل بالباطل ، سواء أكان برضا كالربا ، والبيوع الربوية وكالميسر ، والعقود التي تشتمل عليه ، وغير ذلك من العقود التي جاءت على غير ما أمر به الشرع ، أم كانت بغير رضا صحيح كامل ، كالغصب والسرقة والغش والتدليس والتغرير ، فإن أخذ المال بهذا الشكل لا يجوز مطلقا ; لأنه غير مبني على علم صحيح فلا يكون الرضا كاملا .
وقال تعالى بعد ذلك : وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم هذا معطوف على النهي ، فالنهي منصب على أكل مال المؤمنين بينهم ، وعن [ ص: 570 ] الإدلاء إلى الحكام ، وقد وردت قراءة أبي بزيادة " لا " ، وهي أقرب إلى أن تكون تفسيرا ، ومهما يكن فإن النهي ثابت عن الإدلاء ، كالنهي عن الأكل ; لأنه ينتهي إلى أكل للمال بالباطل ، فالآية تنهى عن الأكل الظالم سواء أكان في ضمن التعامل الآثم بينكم ، أم كان بالاستعانة بالحكام ، بتضليل القضاء ، أو بتحويل الحاكم عن الإنصاف بسحت من المال يقدم .
والإدلاء في أصله إلقاء الدلو في الماء ليحمل الماء إليه من البئر ، أو من حفرة فيها ماء ، ثم أطلق على إرسال أي شيء يأتي بما يفيد ، وأطلق على الذي يحتج على غيره ، أدلى بحجته لأنه أرسلها ، ليأخذ الحق من غيره ، ويقال أدلى بنسب إنما اتصل بالنسبة .
ومعنى أدلى إلى الحكام بالمال ، أي أنهم يقدمونها للحكام الآثمين ، من نسقه الذين يجلسون في مناصب القضاء ، أو الحكام الذين يملكون العطاء والمنع ، أو يملكون القسمة بين الناس ، ومعنى الإدلاء بالمال على هذا تقديم المال لهؤلاء ليعدلوا بهم عن قسمة الحق إلى القسمة الضيزى التي تمنع الحق ، وتقرر الباطل . . والرشوة لها صور شتى ، فمرة تكون بإعطاء المال لتحول من هو في منصب القضاء عن العدل ، أو بالإهداء ، أو بالضيافة ، أو بأداء الخدمات حلالها وحرامها ، أو بمقارضة الظلم ، كأن يظلم في قضية لمجلس في منصب القاضي ، ليظلم في قضيته وكل ذلك استخدام للمال ، أو ما يقوم مقامه من أداء أمور تقوم بمال أو لا تقوم بمال وفيها نفع واضح .
هذا تفسير قوله تعالى : وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم أي أكلا متلبسا بالإثم ، وأنتم تعلمون أنه إثم ، لا حق لكم في أكله ، وهذا تأكيد لمعنى الإثم والظلم وأكل أموال الناس بالباطل ، ولقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لعن الله الراشي والمرتشي " .
[ ص: 571 ] وهناك تخريج آخر لقوله تعالى : وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم بأن المراد بالإدلاء بها الخصومة بشأنها ، والترافع في أمرها ، وأنت تعلم أنك آخذها بغير حق ، ولكن لا حجة لخصمك على أن ما في يدك سلطانك عليه بالباطل ، ولقد قال في ذلك الحافظ ابن كثير عن ابن عباس رضي الله عنهما هذه الآية : وتدلوا بها إلى الحكام في الرجل يكون عنده مال ، وليس عليه فيه بينة ، فيجحد المال ويخاصم إلى الحكام ، وهو يعرف أن الحق عليه .
فهؤلاء رشوا من هو في منصب القضاء ، ولكن يضله ليأكل مقدارا من أموال الناس بالإثم ، فكلمة فريق معناها مقدار قطعه من مال الناس ، وهو يعلم أنه إثم .
ومن هؤلاء من يلحن بالحجة لضل الحاكم ، وقد روت أم سلمة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " ألا إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض ، فأقضي له على نحو ما أسمع ، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه ، فإنما أقطع له قطعة من النار " .
هذان تخريجان لمعنى النص الكريم وتدلوا بها إلى الحكام وإن الإدلاء لتحويل الحكام عن الحكم يكون بسحت من المال يقدم لحكام السوء ، فيحولهم عن الحق إلى الباطل ، وإما بحجة براقة ، أو نقصان في دليل الخصم يتحولون به مخطئين من الحق إلى الباطل ، ويصح الجمع بين التخريجين إذ لا معارضة بينهما . والحكام هم المنفذون للأحكام .
* * *


