أحكام الجهاد 
ذكر الله تعالى في آية البر أن من أعلى أوصاف أهل البر ، والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس  والجهاد هو البأس الذي يوجب الصبر  ، ولذا قال تعالى : وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين    ( 190 واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم  [ ص: 576 ] فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين  فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم  وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين  
* * * 
قوله تعالى : وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين  فيه ثلاث مسائل : 
الأولى- قوله تعالى : " وقاتلوا " هذه الآية أول آية نزلت في الأمر بالقتال ، ولا خلاف في أن القتال كان محظورا قبل الهجرة بقوله : " ادفع بالتي هي أحسن   " [فصلت : 34] وقوله : " فاعف عنهم واصفح   " [المائدة : 13] وقوله : " واهجرهم هجرا جميلا   " [المزمل : 10] وقوله : " لست عليهم بمصيطر   " [الغاشية : 22] وما كان مثله مما نزل بمكة   . فلما هاجر إلى المدينة  أمر بالقتال فنزل : " وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم   " قاله  الربيع بن أنس  وغيره . وروي عن  أبي بكر الصديق  أن أول آية نزلت في القتال : " أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا   " [الحج : 39]  . والأول أكثر ، وأن آية الإذن إنما نزلت في القتال عامة لمن قاتل ولمن يقاتل من المشركين ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج مع أصحابه إلى مكة  للعمرة ، فلما نزل الحديبية  بقرب مكة-  والحديبية  اسم بئر ، فسمي ذلك الموضع باسم تلك البئر- فصده المشركون عن البيت ، وأقام بالحديبية  شهرا ، فصالحوه على أن يرجع من عامه ذلك كما جاء ، على أن تخلى له مكة  في العام المستقبل ثلاثة أيام ، وصالحوه على ألا يكون بينهم قتال عشر سنين ، ورجع إلى المدينة   . فلما كان من قابل تجهز لعمرة القضاء ، وخاف المسلمون غدر الكفار وكرهوا القتال في الحرم وفي الشهر الحرام ، فنزلت هذه الآية ، أي يحل لكم القتال إن قاتلكم الكفار . فالآية متصلة بما سبق من ذكر الحج وإتيان البيوت من ظهورها ، فكان عليه السلام يقاتل من قاتله ويكف عمن كف عنه ، حتى نزل " فاقتلوا المشركين " [التوبة : 5] فنسخت هذه  [ ص: 577 ] الآية ، قاله جماعة من العلماء . وقال ابن زيد  والربيع   : نسخها " وقاتلوا المشركين كافة " [التوبة : 36] فأمر بالقتال لجميع الكفار . وقال  ابن عباس   وعمر بن عبد العزيز   ومجاهد   : هي محكمة ، أي قاتلوا الذين هم بحالة من يقاتلونكم ، ولا تعتدوا في قتل النساء والصبيان والرهبان وشبههم ، على ما يأتي بيانه . قال أبو جعفر النحاس   : وهذا أصح القولين في السنة والنظر ، فأما السنة فحديث  ابن عمر  أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في بعض مغازيه امرأة مقتولة فكره ذلك ، ونهى عن قتل النساء والصبيان ، رواه الأئمة . وأما النظر فإن " فاعل " لا يكون في الغالب إلا من اثنين ، كالمقاتلة والمشاتمة والمخاصمة ، والقتال لا يكون في النساء ولا في الصبيان ومن أشبههم ، كالرهبان والزمنى والشيوخ والأجراء فلا يقتلون  . وبهذا أوصى  أبو بكر الصديق  رضي الله عنه  يزيد بن أبي سفيان  حين أرسله إلى الشام  ، إلا أن يكون لهؤلاء إذاية ، أخرجه  مالك  وغيره ، وللعلماء فيهم صور ست : 
1 - النساء إن قاتلن قتلن  ، قال  سحنون   : في حالة المقاتلة وبعدها ، لعموم قوله : " وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم   " ، " واقتلوهم حيث ثقفتموهم   " [البقرة : 191] . وللمرأة آثار عظيمة في القتال ، منها الإمداد بالأموال ، ومنها التحريص على القتال ، وقد يخرجن ناشرات شعورهن نادبات مثيرات معيرات بالفرار وذلك يبيح قتلهن ، غير أنهن إذا حصلن في الأسر فالاسترقاق أنفع لسرعة إسلامهن ورجوعهن عن أديانهن ، وتعذر فرارهن إلى أوطانهن بخلاف الرجال . 
2 - الصبيان فلا يقتلون للنهي الثابت عن قتل الذرية  ، ولأنه لا تكليف عليهم ، فإن قاتل قتل . 
 [ ص: 578 ]  3 - الرهبان لا يقتلون ولا يسترقون  ، بل يترك لهم ما يعيشون به من أموالهم ، وهذا إذا انفردوا عن أهل الكفر ، لقول  أبي بكر  ليزيد   : " وستجد أقواما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله ، فذرهم وما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم له  " فإن كانوا مع الكفار في الكنائس قتلوا . ولو ترهبت المرأة فروى أشهب  أنها لا تهاج . وقال  سحنون   : لا يغير الترهب حكمها . قال  القاضي أبو بكر بن العربي   : " والصحيح عندي رواية أشهب  ، لأنها داخلة تحت قوله : " فذرهم وما حبسوا أنفسهم له " . 
4 - الزمنى   . قال  سحنون   : يقتلون . وقال ابن حبيب   : لا يقتلون . والصحيح أن تعتبر أحوالهم ، فإن كانت فيهم إذاية قتلوا ، وإلا تركوا وما هم بسبيله من الزمانة وصاروا مالا على حالهم وحشوة . 
5 - الشيوخ . قال  مالك  في كتاب محمد   : لا يقتلون . والذي عليه جمهور الفقهاء : إن كان شيخا كبيرا هرما لا يطيق القتال ، ولا ينتفع به في رأي ولا مدافعة فإنه لا يقتل  ، وبه قال  مالك   وأبو حنيفة   .  وللشافعي  قولان : أحدهما - مثل قول الجماعة . والثاني - يقتل هو والراهب . والصحيح الأول لقول  أبي بكر  ليزيد  ، ولا مخالف له فثبت أنه إجماع . وأيضا فإنه ممن لا يقاتل ولا يعين العدو فلا يجوز قتله كالمرأة  ، وأما إن كان ممن تخشى مضرته بالحرب أو الرأي أو المال فهذا إذا أسر يكون الإمام فيه مخيرا  بين خمسة أشياء : القتل أو المن أو الفداء أو الاسترقاق أو عقد الذمة على أداء الجزية . 
6 - العسفاء ، وهم الأجراء والفلاحون  ، فقال  مالك  في كتاب محمد : لا يقتلون . وقال  الشافعي   : يقتل الفلاحون والأجراء والشيوخ الكبار إلا أن يسلموا أو يؤدوا الجزية . والأول أصح ، لقوله عليه السلام في حديث رباح بن الربيع   ( الحق  بخالد بن الوليد   [ ص: 579 ] فلا يقتلن ذرية ولا عسيفا  ) . وقال  عمر بن الخطاب   : اتقوا الله في الذرية والفلاحين الذي لا ينصبون لكم الحرب  . وكان  عمر بن عبد العزيز  لا يقتل حراثا ، ذكره ابن المنذر   . 
الثانية - روى أشهب  عن  مالك  أن المراد بقوله : " وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم   " أهل الحديبية  أمروا بقتال من قاتلهم . والصحيح أنه خطاب لجميع المسلمين ، أمر كل أحد أن يقاتل من قاتله إذ لا يمكن سواه . ألا تراه كيف بينها في سورة " براءة " بقوله : " قاتلوا الذين يلونكم من الكفار " [التوبة : 123] وذلك أن المقصود أولا كان أهل مكة  فتعينت البداءة بهم ، فلما فتح الله مكة  كان القتال لمن يلي ممن كان يؤذي حتى تعم الدعوة وتبلغ الكلمة جميع الآفاق ولا يبقى أحد من الكفرة ، وذلك باق متماد إلى يوم القيامة ، ممتد إلى غاية هي قوله عليه السلام : ( الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة الأجر والمغنم  ) . وقيل : غايته نزول عيسى بن مريم  عليه السلام ، وهو موافق للحديث الذي قبله ، لأن نزوله من أشراط الساعة . 
 [ ص: 580 ] وقوله تعالى : " ولا تعتدوا " قيل في تأويله ما قدمناه ، فهي محكمة . فأما المرتدون فليس إلا القتل أو التوبة  ، وكذلك أهل الزيغ والضلال ليس إلا السيف أو التوبة . ومن أسر الاعتقاد بالباطل ثم ظهر عليه فهو كالزنديق يقتل ولا يستتاب.  وأما الخوارج على أئمة العدل فيجب قتالهم حتى يرجعوا إلى الحق   . وقال قوم : المعنى لا تعتدوا في القتال لغير وجه الله ، كالحمية وكسب الذكر ، بل قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ، يعني دينا وإظهارا للكلمة . وقيل : " لا تعتدوا " أي لا تقاتلوا من لم يقاتل . فعلى هذا تكون الآية منسوخة بالأمر بالقتال لجميع الكفار ، والله أعلم . . 
				
						
						
