وإنك إن علوت من رذائل الأفعال إلى فساد العقول تجد إخوان السوء هم الذين يمدون في فساد العقول بعبادة الأوثان والكفر بالآيات; ولذا قال تعالى: وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون .
[ ص: 3049 ] الشيء الغائب معظم مذكور بالخير في زعم الذين يسيرون وراء الأوهام، ولا يحكمون الحقائق في ذاتها، فكل مستور تتوهم فيه الأوهام، وتحاط به، وكذلك كان إخوان السوء يجيئون إلى تضليل الناس من وراء ما يستتر عنهم، فالغيب عن الناس لم تجئ من ورائه إلا الأباطيل.
بين أيدي الناس معجزة باهرة قاهرة تحداهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يأتوا بسورة فعجزوا، ثم تحداهم أن يأتوا بسورة مفتراة فعجزوا، ومع ذلك طلبوا هم وإخوان الغي فيهم أن يأتيهم بآية غائبة لم تأتهم، فما دامت لم تأتهم فلها قدسية، فقال الله تعالى عنهم: وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها
أي: إن الذي أغراهم بطلبها أنه لم يأت بهذه الآية، ولو سايرهم بمنطق تفكيرهم لتأدى بهم أنه إذا جاءتهم الآية وصارت حاضرة مهيأة بين أيديهم طلبوا آية أخرى، وقالوا: لولا اجتبيتها، وهكذا تتوالى الطلبات عبثا; لأن من لا يؤمن لا يقنعه بشيء.
والأولى الوقوف عند حال معينة فاطمة للنفس عن متطلباتها، والوقوف عندها.
وقوله تعالى: وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها لولا بمعنى هلا، للحض على الإتيان بآية معينة طلبوها بذاتها اجتبيتها أي اخترتها، وهي آية حسية، وقد جاءت من قبلهم مثلها فكفروا، وإذا كانت الجملة شرطية فمؤداها أنهم مطالبون بما لم يأتهم آية بعد آية، وما هذا شأن المؤمنين، فالدليل إذا كان مقنعا فهو كاف وحده.
ولقد أمر الله تعالى نبيه بأن يرد عليهم بقوله: قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون
هذا هو الجواب الذي أمر الله تعالى به نبيه أن يجيبهم على الطلب الذي دفع إليه أوهامهم الباطلة، وهو مكون من أجزاء ثلاثة:
الجزء الأول: عبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقول: قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي وخلاصته أن الآية يختارها لي ربي لا أبدي عليه، ولا أعين له، وقد قصر الآية [ ص: 3050 ] على ما يوحي به الله، وحصره بـ"إنما" أي: ليس لي أن أقترح عليه آية لم يأت بها، وبين الدليل على وجوب الطاعة فيما اختار - فهو ربي الذي خلقني وأرسلني، وهو أعلم بما يصلح دليلا لرسالتي وما لا يصلح، وهو وحده الذي يوحي إلي، فليس لي أن أقترح عليه، وإن كفرتم بآياته فقد كفرتم به، وفي هذا الجزء برهان صدق الآية التي تحداهم بها.
الجزء الثاني: وصف الآيات، فقال تعالى: هذا بصائر من ربكم البصائر جمع بصيرة، وأصلها من البصر، وهي الرؤية والنظر ثم الإدراك والفهم، ثم أطلقت على ما يؤدي إلى الإدراك أو هو آلته، فإطلاق البصائر على الآيات من قبيل المجاز; لأنها سبب إدراك الحقائق الربانية، والسبيل إلى معرفة الله تعالى وقدرته ورسالاته الإلهية، فهي من قبيل إطلاق اسم السبب وإرادة المسبب، وهو إبصار الحقائق الربانية ومعرفتها.
وإذا كانت هي بصائر آتية من قبل الله تعالى فهو الذي يجتبيها ويختارها ويريدها، وهي من ربكم الذي خلقكم وبرأكم، وهو أعلم بمن خلق وربى وبرأ، وهو اللطيف الخبير.
والجزء الثالث: قاله تعالى في وصف هذه الآيات، وهو الذي قاله بقوله تعالى: وهدى ورحمة لقوم يؤمنون هذان وصفان وصف الله تعالى آياته، وأخصها القرآن، ففيه أمران جليلان ذوا شأن في الرسالات الإلهية:
أولهما - فيه هدى يهدي إلى الحق، وإلى صراط مستقيم، فهو يبين الهدى من الضلالة، والنور من الظلمات بما اشتمل عليه، وبدلالته الذاتية وبإعجازه، وبأنه يهدي إلى الطيب من القول، ويهدي إلى صراط الحميد.
[ ص: 3051 ] وثانيهما - أن فيه الرحمة بما اشتمل عليه من شريعة حكيمة تصلح أمور الناس، وتذهب عنها الفساد، فهي بما شرعت من النظم في الأسرة، ومعاملات بين الناس، ومنع لأكل أموالهم بينهم بالباطل.
وإن هذه الهداية وتلك الرحمة لقوم من شأنهم الإيمان; ولذا قال تعالى: لقوم يؤمنون فوصفهم بالجملة التي يتصدرها الفعل المضارع للدلالة على إيمانهم المستمر المتجدد آنا بعد آن على وجه الدوام.
وذلك لأن شأن المؤمن أن يتجدد إيمانه، فيقوى بالعمل المستمر والمتجدد، فإن العمل الصالح يجدد الإيمان، فلو كان العمل فهو للإيمان كالماء العذب الفرات يغذي الإيمان كما يغذي الماء الزرع.
قراءة القرآن عبادة وجزء من أكبر عبادة