[ ص: 628 ]
ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار هذا هو الفريق الثاني ; ليس همه الدنيا وليست مطالبه مقصورة عليها بل مطالبه ثلاثة :
أولها : حسنة في الدنيا ، أي حال حسنة في الدنيا ، فلا يذل للئيم ، ولا يرام بضيم ، ولا تكرثه كوارث الحياة ، ولا يبتلى في دينه ومروءته وخلقه ، ولا يسلط عليه حاكم ظالم أو متسلط غاشم ; وهكذا يعيش آمنا في سربه عنده قوت يومه ، ينفع الناس ويصل رحمه ، فكل ما يؤدي إلى الاطمئنان والبعد عن الحرام فهو حال حسنة في الدنيا .
والمطلب الثاني : حسنة في الآخرة ، أي حال حسنة في الآخرة ، بأن يكون من المرضي عنهم من رب العالمين ، فلا تلحقه آثام من آثام الدنيا . والمطالبة بالحال الحسنة في الآخرة هي مطالبة بأن يجنبه السيئات في الدنيا ، ويوفقه للطاعات فيها ، لأن حال الآخرة مبنية على حال الدنيا ، فإن كان قائما بالطاعات نافعا للناس فيها غير ظالم ولا متكبر ، لا يعيث في الأرض فسادا ، فحاله في الآخرة حسنة ; وإن انهوى في الشر وركبته الآثام في الدنيا ، وأحاطت به خطيئته ، فليست حاله في الآخرة حسنة .
والمطلب الثالث : أن يقيه عذاب النار ، وقد ذكر ذلك مطلبا قائما بذاته مع أنه داخل في حسنة الآخرة ; إذ إن حسنة الآخرة تقتضي ألا يكون في النار ، لأن ، وكلما أكثر من الطاعات استصغر ما صنع في جانب ما أنعم عليه الكبير المتعال ، ولذلك كان الصديقون والنبيون أخوف لله من غيرهم لأنهم أقرب إليه ، وأدنى منه ، ومراتب الناس في الخوف من العقاب هي كمراتبهم في الطاعات لا كدركاتهم في المعاصي ، لأن أهل المعاصي في لهو شاغل ، أما أهل الطاعات فهم في ذكر لله دائم ، وقد وصف الله الطائعين بقوله : المؤمن الخاشع الخاضع يغلب الخوف على الرجاء ، فكلما ازداد قربا من الله ازدادت خشيته ورهبته الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون
[ ص: 629 ] ولقد وصف القاسم بن عبد الرحمن ذلك القسم الذي يطلب حسنة الدنيا والآخرة ، فقال : من أعطى قلبا شاكرا ، ولسانا ذاكرا ، وجسدا صابرا ، فقد أوتي في الدنيا حسنة ، وفي الآخرة حسنة ، ووقي عذاب النار .
ولقد ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار " . كان أكثر دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - "
ولم يذكر قسم ثالث وهو الذي يطلب الآخرة فقط ، ولا يطلب الدنيا ; لأن الإسلام لا يرضى أن ينسى المسلم حظه من الدنيا ; ولأن من يطلب الآخرة يطلب الأعمال الحسنة في الدنيا ; لأنها قنطرة الآخرة ، ولأن لأنه لا يرضى بتعذيب الجسم لتهذيب الروح كما يزعم الذين يسلكون ذلك المسلك . الإسلام لا يقر الانقطاع عن طيبات الدنيا لحظ الآخرة
ولقد روى البخاري ومسلم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار " . أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عاد رجلا من المسلمين صار مثل الفرخ ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " هل تدعو الله بشيء أو تسأله إياه ؟ " قال : نعم كنت أقول : اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " سبحان الله ! ! لا تطيقه ، أفلا قلت :