فضل الإيمان والجهاد
قال تعالى: أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم
كان المشركون بمكة يفاخرون دائما بأنهم سدنة البيت الحرام، يسقون حجيجه، ويعمرونه بالتنظيف والتشييد، والقيام على شئونه، وما يحتاج إليه من عمارة، وهم أهل جواره الذين يستقبلون الناس ويتطاولون على الناس بهذه المكانة، حتى إنه ليروى أن - رضي الله عنه - كان يقول قبل إسلامه أو قبل أن يظهر إسلامه لابن أخيه العباس بن عبد المطلب : تذكرون مساوئنا ولا تذكرون محاسننا، كنا نسقي الحجيج، ونعمر البيت، ونطعم الطعام، ونأوي العاني. علي بن أبي طالب
بل إنه [ ص: 3256 ] يروى أن بعضهم قال لليهود الذين كانوا يمالئونهم على النبي - صلى الله عليه وسلم -: أينا خير، أنحن الذين نقوم بالسقاية والسدانة، ونطعم الطعام، أم محمد؟ فيقول لهم اليهود الذين لم يجر على ألسنتهم قول الحق قط: أنتم.
يقول الله تعالى موبخا مستنكرا: أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله والمعنى: أصيرتم سقاية الحاج، أي: جنس الحاج وهم الحجيج، وعمارة المسجد الحرام، أي: تنظيفه والقيام على بنائه وتشييده - كإيمان من آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله؟!!
وقال أكثر المفسرين: إن في الكلام تقديرا لمحذوف تقديره: أجعلتم أهل سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام، وقالوا: إنه يدل عليه قراءة (سقاة) بضم السين وهي جمع ساق، ويكون المعنى على هذه القراءة: أصيرتم سقاة الحجيج، وأهل عمارة البيت الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر، وجاهد في سبيل الله تعالى؟! والاستفهام إنكاري توبيخي متضمن النفي وأن ما صنعوا لا ينبغي لأهل العقول المدركة، والآيات تتلى عليهم بالحق المبين ليتدبروه فينكصون عنه، ويسمرون بهجر القول، ويتفاخرون بشعر العرب، كما قال تعالى: قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون مستكبرين به سامرا تهجرون أي يهجرون القرآن، وكانوا يسمرون بالأساطير والخرافات، ويهجرون القرآن هجرا.
وقد أجاب سبحانه وتعالى عن الاستفهام التوبيخي مبينا الحق لا يستوون عند الله فمقامهم عند الله مختلف، مقام المجاهد المؤمن بالله واليوم الآخر مقام عال، لا يناصى، ومقام المشرك الذي يكتفي من الشرف بالسقاية والعمارة المادية، ويظن ذلك مقربا إليه زلفى، وهو يشرك بالله في عبادته الأنداد، إنهم تركوا الجوهر وناقضوه، وأخذوا بمظهر باطل لا يغني عن الحق شيئا.
[ ص: 3257 ] وقد بين جزاء الأعلياء المفضلين من بعد، وبين هنا ضلال المشركين، فقال تعالى: والله لا يهدي القوم الظالمين والظالمون هم المشركون، وقد سمى الله الشرك ظلما، لأن المشرك ظلم الحق فعبد أوثانا لا تضر، وظلم العقل المدرك فطمسه، وظلم نفسه فتردى بها في مهاوي الضلال، وطمس الحق، وإن الله لا يهدي الذين أركسوا أنفسهم في هذا؛ لأنهم لم يسلكوا نجد الحق والعقل والإدراك السليم.
وهنا إشارة بيانية، وهي أن سياق الآية في ظاهره من غير تقدير جعل المناظرة بين سقاية الحاج وعمارة البيت الحرام ومن آمن ... والمعنى: إيمان من آمن، ولكنه ذكر من آمن ... وذلك لبيان الإيمان قائما في أصحابه محسوسا مرئيا؛ لأنه تزكية ظاهرة، ودعوة عملية إليه كقوله تعالى: ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر إلى آخر آية البر.
وبعد أن بين الله تعالى أن الظالمين بسبب ما سلكوا يستمرون في غيهم يعمهون، بين جزاء الهداة الذين جاهدوا بعد أن آمنوا وهاجروا الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون