[ ص: 634 ] ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام ( 204 وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رءوف بالعباد
* * *
بين الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة بعض العبادات التي تطهر النفوس وتزكي القلوب ، وتحمي الجماعات وتوجهها نحو الخير العميم ; فذكر الصدقات ثم ذكر الصوم ، ثم ذكر الحج الذي تتلاقى فيه القلوب وتلتقي فيه وفود الجماعات الإسلامية من كل فج عميق في الساحة الربانية ; وقد ذكر في طي الكلام أصناف الناس في أدعيتهم التي تكشف عن خبايا قلوبهم ، وأن منهم من يطلب الدنيا ، ولا غاية له وراءها ، ومنهم من يقول : ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار
والعبادات أيا كان نوعها دواء الجماعة وبلسم القلوب الشافي ، وبعد أن ذكر الله سبحانه وتعالى ذلك الدواء الناجع ذكر سبحانه داء الجماعات المستحكم ، ومرضها الممض ، وهو النفاق ، وخلابة اللسان مع فساد القلب والمظهر الحسن مع القصد السيئ ، ومحاولة اجتذاب الناس بالقول المعسول مع فعله المرذول حتى إذا نال ثقتهم ملأ الدنيا بالشر ، وظهر الفساد في البر والبحر .
[ ص: 635 ] وهكذا يذكر الله سبحانه دواء القلوب ، ويذكر داءها ، ليطب كل امرئ لنفسه بما يداويها ، وتطب الجماعة لنفسها باجتثاث الشر من بين ربوعها ، ونفي الخبث عنها كما ينفي الكير خبث الحديد .
وهذا التداوي يقوم به فريق الخير الذي نصبه الله سبحانه حجة للحق ومنارا للشرع ، وهذا ما ترمي إليه الآيات الكريمات : ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا إلى آخر الآيات المذكورات .
وقد ذكر الله سبحانه في هذه الآيات أن الناس فريقان : فريق الشر أهل النفاق ، وهم الداء ، وهم درن الأمة ، بل السرطان الذي يقضي عليها ، إن لم يجتث من أصله . والفريق الثاني ، وهم الذين يتولون العلاج وهم الأخيار الذين شروا أنفسهم ابتغاء مرضاة الله .
وقد ابتدأ سبحانه بذكر الداء ، ليعلم أهل الخير مقدار ما يبتلون به ، وقد ذكر صفات أهل الشر ; فكانت ثلاثة :
أولها : حسن البيان والقول الحلو . وثانيها : كثرة الحلف الكاذب .
وثالثها : اللدد في الخصومة .
ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا هي الصفة الأولى ، وهي أصل الداء القاتل وقوته ، فإن ; فهم بمعرفتهم بمأتى القول ومورده يثيرون الإعجاب بحسن تأتيهم ، وينالون الاستحسان العظيم بلطف مداخلهم ، أو بزخرف القول وزوره ، ويسترعون ألباب بعض أهل الخير الكرام ; فالمؤمن كريم ، والمنافق خب لئيم . خلابة اللسان المنافق ، وقوة البيان الكاذب ، وحسن العرض للقول الباطل ، هي المعاول القوية التي يرفعها المبطلون لهدم الفضائل
[ ص: 636 ] وقوله تعالى : في الحياة الدنيا إما أن يكون متعلقا بالقول ، ويكون المعنى يعجبك قولهم الذي يكون موضوعه الحياة الدنيا ، إذ يفهمون ما فيها ولا يدركون سواها ; لأنها خلب أكبادهم ، وغاية أمورهم ، ومن أحب شيئا أحسن القول فيه ، ومن كانت الدنيا همه أحسن حكاية أمورها ، حتى إن قوله فيها ليكون عجيبا ; أما الآخرة فلا يحسن القول فيها ، لأنه لا يبتغيها ، فإن تكلم في أمر يتعلق بها اعترته حبسة وعي وحصر .
وإما أن يكون في الحياة الدنيا متعلقا بالإعجاب ، أي أن قدرته على إثارة الإعجاب والاستحسان لبيانه إنما يكون ذلك في الدنيا فينتج ثمرته حيث يكون الحكم للظاهر ، ولا ينقب عن القلوب والسرائر ، كما قال رضي الله عنه : أيها الناس إن الوحي قد انقطع ، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم هذا أمر الدنيا ، أما الآخرة فالحكم فيها علام الغيوب الذي يعلم ما تخفي الصدور ، فلا سبيل للخديعة بالقول ، فالله يكشف مستور القلوب ، ويحكم عليه بمقصده وغايته ، لا بقوله وإجادته . عمر
ونحن نختار أن يكون متعلق الجار والمجرور لا القول ; لأنه الذي يتفق مع السياق ; إذ إن السياق في بيان الذين يخدعون الناس في الدنيا وقلوبهم مريضة لا بيان حال من يجيدون القول فيها ، وإن بعض الذين يجيدون القول في الدنيا أخيار لا أشرار .
هذا أول حال من أحوال الذين يظهرون ما لا يخفون ، ويقولون ما لا يفعلون .
أما الصفة الثانية فهي قوله تعالى : ويشهد الله على ما في قلبه أي أن هذا الذي يثير إعجاب الناس في الدنيا بخلابة لسانه وقوله الحلو المعجب المطرب ، إن رأى الناس يتشككون في قوله أقسم بصدقه ; لأنه قد يبدو من فحوى بيانه ما يدل على جنانه كما قال تعالى سبحانه في شأن المنافقين ومن في قلوبهم مرض : ولتعرفنهم في لحن القول فإذا لمح المخادع من النظرات التي [ ص: 637 ] توجه إليه استغرابا لدعاويه ، أو استبعادا لها ، وثقها بأن أشهد الله على أن ما في قلبه يوافق ما يجري على لسانه .
فمعنى قوله تعالى : ويشهد الله على ما في قلبه أنه يقسم بالله تعالى إن ما جرى على لسانه هو نفس ما يختلج في قلبه ، أو ما يؤمن به ولقد قرر علماء اللغة أن من ألفاظ القسم : الله يعلم أني فعلت كذا ، أو الله يشهد أني قلت كذا ; فهذا توكيد بالأيمان معروف في لغة العرب ، ولقد قرروا أن الحلف على هذا النحو أوكد وأوثق من القسم الصريح ، وقال بعض الفقهاء : إن ، يعتبر مرتدا ، لأنه كذب على الله ، أو رماه بالجهل ، وعندي أن ذلك لا يعد كفرا لعدم القصد إلى ذلك المعنى الإلحادي ; ولكنه على أي حال مستهين بحق الله عليه كشأن كل حالف بالكذب ، سواء أكان الحلف بلفظ صريح في الحلف ، أو بلفظ يؤدي إليه . من يقول كاذبا : الله يشهد بكذا أو يعلم بكذا ، مؤكدا كذبه بذلك
أولئك المخادعون الذين يخدعون الناس ولا يخدعون الله هم الذين يقطعون أوصال الأمة ، وبهم تبتلى ، وبسببهم تنزل الفتن ويثور الشر ، وتذهب الثقة بين الناس ، وتقوم العداوة بينهم مقام المودة ، والبغضاء محل الإخاء ، لأنهم بخديعتهم للناس ، ثم تكشف أحوالهم بمرور الأيام تضيع الثقة ; ثم الذين يعمدون إلى تلك الأساليب الماكرة لا يبغون خيرا ، بل لا يبغون إلا شرا ، لأن الأخيار لا يحتاجون إلى إخفاء نياتهم ، وما يجول في قلوبهم ; إنما الذين يبدون ما لا يخفون هم الذين توسوس نفوسهم بالشر والهوى ، ولا يريدون أن يطلع عليه أحد ; ولذلك عرف النبي - صلى الله عليه وسلم - الشر بأنه : " " ، فالشر لا يعيش إلا في كن مظلم والنور يقتله ، والخير يزيده النور وضوحا وقوة ونماء " ومن كان الشر غايته فهو عنصر مخرب مفسد مهلك ; وهو بلاء لأمته وجماعته وأسرته " بل بلاء على نفسه في الدنيا عندما يعلم أمره ، وفي الآخرة له عذاب أليم . ما حاك في الصدر وكرهت أن يطلع عليه الناس
[ ص: 638 ] ولذلك كان أخوف ما يخافه النبي - صلى الله عليه وسلم - على أمته من بعده : رجلا عليم اللسان منافق القلب ; فإن ذلك النوع من الرجال يثير التظنن بالصالحين ، ويفسد الأمر على المحقين ; ويجعل بأس الأمة بينها شديدا ، ولقد روى عن بعض الصالحين أنه قال : إني لأجد صفة ناس من هذه الأمة في كتاب الله المنزل : قوم يحتالون على الدنيا بالدين ، ألسنتهم أحلى من العسل ، وقلوبهم أمر من الصبر ، يلبسون للناس مسوح الضأن ، وقلوبهم قلوب الذئاب ; ويقول الله عز وجل : فعلي يجترئون وبي يفترون ، وعزتي لأبعثن عليهم فتنة تترك الحليم فيها حيران . ابن جرير
ومهما يكن من أمر ذلك الخبر ، فإن معناه متحقق سجله الإسلام ، وأثبتته الوقائع ، فما من أمة ابتلاها الله بهيمنة هذا النوع من الرجال إلا فسد أمرها ، واضطرب حالها ، وسارت في طريق أوله نفاق وفساد ، وآخره فتنة وخراب .
وهو ألد الخصام هذه هي الصفة الثالثة الملازمة للمخادعين الذين يستلبون قلوب الناس من جنوبهم بحسن بيانهم وكذبهم على الله بأيمانهم ، والألد من معناه في اللغة : العوج ، وفسر بعض العلماء قوله تعالى : وتنذر به قوما لدا أي عوجا ، والمنافق ألد دائما لأنه أعوج دائما .
واللدد من معناه اللغوي أيضا : الشدة في الخصومة والمغالبة فيها ، ويقال رجل ألد وامرأة لداء ، وقد لدد يلد - كفرح يفرح - لددا ; أي صار ألد ، ولددته ألد كنصر ينصر إذا جادله فغلبه ، وقال في أصل اشتقاق اللدد بمعنى الشدة في الجدل والخصومة إنه مأخوذ من لديدي العنق ، وهي صفحتاه ; وتأويله أنه من أي وجه أخذ من يمين أو شمال في أبواب الجدل غلب . الزجاج
[ ص: 639 ] والخصام - إما أن يقال إنه مصدر خاصم أي جادل أو عادى ; أو تقول جمع خصم كضخم وضخام ; وقال الأول أي أنه مصدر خاصم ، وقال أبو عبيدة الثاني . الزجاج
والمعنى على الأمرين : أن ذلك النوع من الناس الذي يحاول أن يخدع الناس بحلو لسانه ، ويضلهم بقدرة بيانه ، فيه طبع ملازم له ، وهو شدة الخصومة ، ويصح أن نفسر الخصومة بالعداوة ، كما يصح أن نفسرها بالجدل والمغالبة البيانية في ميدان المناظرات .
وعلى الأول يكون المعنى إنه شديد العداوة واللجاجة في الخصومة ، فليس هينا لينا قريب الرضا سهل الرجوع ، بل إنه لحب نفسه وكراهيته لخير الناس ، لا يصفح عمن ينال منه ولو بالحق فهو قد أكل الحقد قلبه ، واعتركت في نفسه حسكة الحسد ; وكذلك كل شرير ; لا يحب الناس ، ولا يظهر لهم المودة إلا برئاء القول : بل ذلك شأن المجرمين ; ففي طبيعة كل مجرم بغض للمجتمع ، وكأن بينه وبين الناس ثأرا لا يطل ، وترات يجب استيفاؤها ; وكلما انحدر في جريمة وتلقفته يد العدالة ازداد للناس كرها وعاد إلى مثلها أو أكثر ; وكذلك أولئك الذين في قلوبهم مرض ، وفي ألسنتهم حلاوة يخدعون بها الناس : يبغضون الناس ولا يحبونهم إلا بمقدار ما ينالون من أرب فيهم ، ولا يصفحون عمن ينالهم بالقصاص العادل ، ويتبعون العورات ; وهكذا هم في خصومات قلبية بينهم وبين الأخيار ; يظهرون القول الحسن ليستمكنوا من الرقاب ، ثم يشفوا غيظهم .
وعلى الثاني ، وهو أن يكون الخصام بمعنى المجادلة والمنازلة البيانية ، يكون المعنى : أن هؤلاء الذين يخادعون الناس بالقول الحلو ، يثيرون الإعجاب بحسن بيانهم ، ويوثقونه بالأيمان المغلظة ، ويجادلون عنه بقوة وعنف وغلب ; فالكلام [ ص: 640 ] يكون كله في بيان منهاجهم في خدع الناس ، وسلب ثقتهم بقول الزور ; ولذلك كان هذا المعنى أنسب للسياق .
واللدد في الجدل في ذاته صفة ملازمة للمراء والمهاترة ; لأن من يكون همه الجدل يندفع إلى تأييد مذهبه بالحق وبالباطل ، إذ لا يهمه الحق بمقدار ما يهمه انتصار فكره ، وغلبه في ميدان النزال البياني ; ولذلك كان مبغضا إلى الله ، وإلى الذين يدعون إلى الحق المجرد ; ولقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه : " مسلم " ولقد كان الإمام إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم رضي الله عنه يقول : كلما جاء رجل أجدل من رجل نقص مما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - . مالك
وفي الحق إن أولئك الذين يحاولون أن يكسبوا قلوب الناس ليتمكنوا من رقابهم بالقول المعسول الخادع فيهم الأمران السابقان : فيهم البغض الشديد للناس ، وفرضهم أعداء وخصوما ، ولا يفرضونهم أولياء وإخوانا ; وفيهم اللدد في الجدال ومحاولة الغلب بالحق وبالباطل .
بل إن بغضهم للناس ، أو على الأقل عدم نظرتهم إليهم نظرة أخوة واصلة ، ومودة مقربة ، هي التي جعلتهم يحاولون خديعتهم بالقول البراق ، واليمين الغموس ، والجدل الذي تبرق فيه الألفاظ ، ويختفي فيه نور الحق وتنقطع به أسباب اليقين ; ولو كانوا يفرضون الأخوة الرابطة بينهم وبين الناس ، لأحبوا لهم ما يحبون لأنفسهم ، ولكرهوا ما يكرهون لهم ، ولكشفوا عن نيتهم واضحة بينة ; فالحق دائما أبلج ، والباطل لجلج ; فحيثما كانت خديعة فثمة هوة فارقة ، لا أخوة جامعة ; وحيثما كانت لجاجة فثمة حق ضائع وباطل رائج .