[ ص: 658 ] زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة بعد أن بين سبحانه أن الذين كفروا قد جحدوا بالله ، وقد كثرت البينات ، وقامت الدلائل القاطعة ، بين السبب في غشيان الضلال قلوبهم ; وهو أن الدنيا زينت لهم فحسبوها كل شيء وأنساهم ذلك ذكر الآخرة وما فيها من حساب وعقاب ، بل إنه بسبب ضيق عقولهم انحصر تفكيرهم في هذه ، وحسبوا أن لا بعث ولا نشور ، وأنكروا ذلك إنكارا تاما ; ولذلك قال سبحانه : زين للذين كفروا الحياة الدنيا فهي كل شيء في تفكيرهم وقد دفعهم إلى اللجاجة في الكفر والجحود أن وجدوا من لم يؤتوا حظا من الدنيا ، وهم الضعفاء والفقراء والعبيد هم الذين سبقوا بالإيمان ; ولذلك سخروا من الحق والمؤمنين إذ علموا في أنفسهم أن التقدير عند الله هو التقدير بحال الدنيا من مال وجاه ، وحسب ونسب ، لا بمقدار الحق في ذاته ; ولم يعلموا أن الله لا ينظر إلى الأحساب والأموال والصور ولكن ينظر إلى القلوب والأعمال ; ولذلك سخروا من الذين أحبوا الإيمان وأهله وقالوا : أهؤلاء الذين سبقونا بالإيمان ; ولذلك قال سبحانه : ويسخرون من الذين آمنوا يستهزئون بالذين آمنوا . ولقد قال في هذه الآية : نزلت في المنافقين : عطاء عبد الله بن أبي وأصحابه ، كانوا يتنعمون في الدنيا ، ويسخرون من ضعفاء المؤمنين ، وفقراء المهاجرين ، ويقولون : انظروا إلى هؤلاء الذين يزعم محمد أنه يغلب بهم .
وإن أهل الحق دائما ليسوا ممن نالوا حظا كبيرا في الدنيا ; فإن أولئك أقرب إلى بذل النفوس في سبيله بعد الإيمان ، والعبر كل يوم قائمة شاهدة مثبتة .
ولقد ذكر سبحانه منزلة المؤمنين الذين يستهزأ بهم فقال : والذين اتقوا فوقهم الذين آمنوا واتقوا الله فوق أولئك الجاهلين الجاحدين الذين كفروا بالآخرة ، وآمنوا الإيمان كله بالدنيا ; ولا ارتباط بين نعيم الدنيا ونعيم الآخرة ، بل قد يكون [ ص: 659 ] محروم الدنيا هو المنعم في الآخرة ، ; ولذلك قال سبحانه : والجزاء على الأعمال لا على الأموال ، وعلى القلوب لا على الأحساب ، وعلى التقوى لا على الأنساب والله يرزق من يشاء بغير حساب فالله سبحانه هو الرزاق ذو القوة المتين ، يعطي من يشاء ويمنع من يشاء ، ولا أحد يحاسبه ، وليس عطاؤه دليل رضاه ، فقد يعطي الكافر ، وهو غير راض عنه كما قال تعالى : ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون والرزق في الدنيا منوط بأسباب دنيوية يجيدها الكافر كما قد يجيدها المؤمن ، ومن سلك سبيلها وطلبها من مظانها رزقه الله ، مؤمنا كان أو كافرا ، ومن تنكب الطريق ، لم يرزقه الله ، وله فوق الأسباب تصريف الحكيم وتدبير العليم سبحانه ، إنه على ما يشاء قدير .
والخطأ أن يجعل تقدير الناس بأموالهم لا بأعمالهم ، وبمظاهرهم لا بنفعهم ، روي . أن رسول الله كان بين أصحابه فمر بهم رجل فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لرجل جالس عنده : " ما رأيك في هذا ؟ فقال : رجل من أشراف الناس ، هذا والله حري إن خطب أن ينكح ، وإن شفع أن يشفع ، وإن تكلم أن يسمع فسكت رسول الله ; ثم مر رجل آخر فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ما رأيك في هذا " ؟ فقال : يا رسول الله إن هذا رجل من فقراء المسلمين ، هذا حري إن خطب ألا ينكح ، وإن شفع ألا يشفع ، وإن قال لا يسمع لقوله ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : " هذا خير من ملء الأرض مثل هذا "
وإن المال هو الذي يضل العباد فيجعلهم يخطئون في تقدير الناس ، وتقطع به الأواصر ، ولو قدره الناس حق قدره ، ولم يتجاوزوا به الحد ما كانت تلك الآفات ، ولو كان الناس يقدرون بفضائلهم لا بأموالهم وتساووا في الحقوق أمام القانون ما كان ذلك الألم الذي يمض الفقير ، وحسب الغني أن المال عبء عليه ، وأنه ظل زائل ، وعرض حائل ; ولقد قال - صلى الله عليه وسلم - : " والله سبحانه مالك الملك ذو الجلال والإكرام . يقول ابن آدم مالي مالي ، وهل لك من مالك [ ص: 660 ] إلا ما أكلت فأفنيت ، وما لبست فأبليت ، وما تصدقت فأمضيت ، وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس "
* * *