[ ص: 3758 ]
* * *
الاختلاف في الحق
قال تعالى:
nindex.php?page=treesubj&link=30550_31912_32420_34513_28982nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=110ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم وإنهم لفي شك منه مريب nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=111وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم إنه بما يعملون خبير nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=112فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=113ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=114وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=115واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين
* * *
كانت التسلية في قصص الأنبياء الذين بعثوا في أرض
العرب وللعرب، ولم تذكر لهم كتب، وقد ذكر بعد ذلك
موسى وقد جاء بكتاب يصدقه القرآن، وفيه بشرى
بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، فأشار سبحانه إلى قصة
موسى بطرف من القول فقال تعالت كلماته:
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=110ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم أكد الله نزول الكتاب على
موسى بـ (اللام) و (قد)، وأضاف سبحانه الإيتاء إليه، وكان فيه آيات بينات وعظات وأحكام زاجرة، ولم يترتب على
[ ص: 3759 ] إيتاء
موسى عليه السلام الإيمان به، وقد أنقذهم من ظلم
فرعون الذي كان يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم، ورأوا تسع آيات حسية ملزمة، ورأوا آيات الله تعالى فيهم ونعمه ظاهرة وباطنة تفيض عليهم، مع كل هذا لم يذعنوا لما جاء به من شرائع بل اختلفوا فيه، فإذا كانوا قد اختلفوا في شأنه ما بين مذعن ومؤول ومخالف، فكيف تنتظر يا
محمد من قوم أميين أن يذعنوا بمجرد النزول.
و: (الفاء) في قوله:
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=110فاختلف فيه للعطف والترتيب من غير تراخ، وكأنه ترتب على إيتاء الله تعالى
موسى الكتاب الاختلاف، وهذا يدل على أن الاختلاف ليس ناشئا من ذلك الكتاب، بل هو ناشئ من فساد النفوس وإذا فسدت النفوس لا يقنعها الدليل، ولا يهديها البرهان مهما يكن حاسما.
وقد افترق اليهود على فرق شتى حول التوراة ما بين ربانيين وقرائين، وصدوقيين لا يؤمنون باليوم الآخر.
ويبدو من فرقهم أن الاختلاف في شأن الكتاب كان في فهمه، حتى ضلوا وحرفوا الكلم عن موضعه، وأتوا بكتاب لم ينزل على
موسى، وقالوا إنه من الكتاب، وليس منه في شيء.
وقد قال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=110ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم ولولا أن الله تعالى يمهل الظالمين إلى يوم يبعثون، ويتركهم يتجادلون، ليزيد ابتلاؤهم لقضى بينهم في هذا الاختلاف وبين الحق الذي لا يحتار فيه أحد، ولكنه تركهم يتعرفونه; لأنه خلقهم ذوي مدارك، ومع كل نفس فجورها وتقواها.
وقال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=110وإنهم لفي شك منه مريب الشك معناه التظنن في الحق، وقد بدت دلالة، والريب هو نتيجة هذا التظنن، والضمير في قوله:
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=110وإنهم لفي شك منه مريب يعود إلى المشركين كما يقول أكثر المفسرين، والضمير في (منه) يعود إلى القرآن.
[ ص: 3760 ]
ولكن لم يكن ذكر للمشركين، ولم يكن ذكر هنا للقرآن، وإن إعادة الضمير إليهم، وإلى كتاب الله تعالى لا يأتي بفائدة جديدة، وأرى أن الضمير يعود إلى قوم
موسى الذي أوتي التوراة، ويكون الريب بسبب اختلافهم، فإن الاختلاف يحدث الشك، والجدل ذريعة الريب، والضمير في (إنهم) يعود حينئذ إلى مذكورين في القول غير مطويين، وكذلك الضمير في (منه) .
وإن في ذلك لعبرة من ناحيتين:
الأولى: تسلية النبي - صلى الله عليه وسلم -.
والثانية: بيان أن الاختلاف والجدل تميع فيهما الحقائق، ويحل محلها الشك والريب، اللهم هبنا الوفاق، وجنبنا الشقاق، وقد أكد الله تعالى شك القوم بـ إن وباللام وبالجملة الاسمية.
[ ص: 3758 ]
* * *
الِاخْتِلَافُ فِي الْحَقِّ
قَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=treesubj&link=30550_31912_32420_34513_28982nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=110وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=111وَإِنَّ كُلا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=112فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=113وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=114وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=115وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ
* * *
كَانَتِ التَّسْلِيَةُ فِي قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ بُعِثُوا فِي أَرْضِ
الْعَرَبِ وَلِلْعَرَبِ، وَلَمْ تُذْكَرْ لَهُمْ كُتُبٌ، وَقَدْ ذُكِرَ بَعْدَ ذَلِكَ
مُوسَى وَقَدْ جَاءَ بِكِتَابٍ يُصَدِّقُهُ الْقُرْآنُ، وَفِيهِ بُشْرَى
بِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَأَشَارَ سُبْحَانَهُ إِلَى قِصَّةِ
مُوسَى بِطَرَفٍ مِنَ الْقَوْلِ فَقَالَ تَعَالَتْ كَلِمَاتُهُ:
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=110وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أَكَّدَ اللَّهُ نُزُولَ الْكِتَابِ عَلَى
مُوسَى بِـ (اَللَّامِ) وَ (قَدْ)، وَأَضَافَ سُبْحَانَهُ الْإِيتَاءَ إِلَيْهِ، وَكَانَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ وَعِظَاتٌ وَأَحْكَامٌ زَاجِرَةٌ، وَلَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَى
[ ص: 3759 ] إِيتَاءِ
مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الْإِيمَانُ بِهِ، وَقَدْ أَنْقَذَهُمْ مِنْ ظُلْمِ
فِرْعَوْنَ الَّذِي كَانَ يَذْبَحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ، وَرَأَوْا تِسْعَ آيَاتٍ حِسِّيَّةٍ مُلْزِمَةٍ، وَرَأَوْا آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِمْ وَنِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً تَفِيضُ عَلَيْهِمْ، مَعَ كُلِّ هَذَا لَمْ يُذْعِنُوا لِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ شَرَائِعَ بَلِ اِخْتَلَفُوا فِيهِ، فَإِذَا كَانُوا قَدِ اِخْتَلَفُوا فِي شَأْنِهِ مَا بَيْنَ مُذْعِنٍ وَمُؤَوِّلٍ وَمُخَالِفٍ، فَكَيْفَ تَنْتَظِرُ يَا
مُحَمَّدُ مِنْ قَوْمٍ أُمِّيِّينَ أَنْ يُذْعِنُوا بِمُجَرَّدِ النُّزُولِ.
وَ: (اَلْفَاءُ) فِي قَوْلِهِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=110فَاخْتُلِفَ فِيهِ لِلْعَطْفِ وَالتَّرْتِيبِ مِنْ غَيْرِ تَرَاخٍ، وَكَأَنَّهُ تَرَتَّبَ عَلَى إِيتَاءِ اللَّهِ تَعَالَى
مُوسَى الْكِتَابَ الِاخْتِلَافُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاخْتِلَافَ لَيْسَ نَاشِئًا مِنْ ذَلِكَ الْكِتَابِ، بَلْ هُوَ نَاشِئٌ مِنْ فَسَادِ النُّفُوسِ وَإِذَا فَسَدَتِ النُّفُوسُ لَا يُقْنِعُهَا الدَّلِيلُ، وَلَا يَهْدِيهَا الْبُرْهَانُ مَهْمَا يَكُنْ حَاسِمًا.
وَقَدِ اِفْتَرَقَ الْيَهُودُ عَلَى فِرَقٍ شَتَّى حَوْلَ التَّوْرَاةِ مَا بَيْنَ رَبَّانِيِّينَ وَقَرَّائِينَ، وَصَدُوقِيِّينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ.
وَيَبْدُو مِنْ فِرَقِهِمْ أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي شَأْنِ الْكِتَابِ كَانَ فِي فَهْمِهِ، حَتَّى ضَلُّوا وَحَرَّفُوا الْكَلِمَ عَنْ مَوْضِعِهِ، وَأَتَوْا بِكِتَابٍ لَمْ يَنْزِلْ عَلَى
مُوسَى، وَقَالُوا إِنَّهُ مِنَ الْكِتَابِ، وَلَيْسَ مِنْهُ فِي شَيْءٍ.
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=110وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُمْهِلُ الظَّالِمِينَ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ، وَيَتْرُكُهُمْ يَتَجَادَلُونَ، لِيَزِيدَ اِبْتِلَاؤُهُمْ لَقَضَى بَيْنَهُمْ فِي هَذَا الِاخْتِلَافِ وَبَيْنَ الْحَقِّ الَّذِي لَا يَحْتَارُ فِيهِ أَحَدٌ، وَلَكِنَّهُ تَرَكَهُمْ يَتَعَرَّفُونَهُ; لِأَنَّهُ خَلَقَهُمْ ذَوِي مَدَارِكَ، وَمَعَ كُلِّ نَفْسٍ فُجُورُهَا وَتَقْوَاهَا.
وَقَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=110وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ الشَّكُّ مَعْنَاهُ التَّظَنُّنُ فِي الْحَقِّ، وَقَدْ بَدَتْ دَلَالَةٌ، وَالرَّيْبُ هُوَ نَتِيجَةُ هَذَا التَّظَنُّنِ، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=110وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ يَعُودُ إِلَى الْمُشْرِكِينَ كَمَا يَقُولُ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ، وَالضَّمِيرُ فِي (مِنْهُ) يَعُودُ إِلَى الْقُرْآنِ.
[ ص: 3760 ]
وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ ذِكْرٌ لِلْمُشْرِكِينَ، وَلَمْ يَكُنْ ذِكْرٌ هُنَا لِلْقُرْآنِ، وَإِنَّ إِعَادَةَ الضَّمِيرِ إِلَيْهِمْ، وَإِلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَأْتِي بِفَائِدَةٍ جَدِيدَةٍ، وَأَرَى أَنَّ الضَّمِيرَ يَعُودُ إِلَى قَوْمِ
مُوسَى الَّذِي أُوتِيَ التَّوْرَاةَ، وَيَكُونُ الرَّيْبُ بِسَبَبِ اِخْتِلَافِهِمْ، فَإِنَّ الِاخْتِلَافَ يُحْدِثُ الشَّكَّ، وَالْجَدَلُ ذَرِيعَةُ الرَّيْبِ، وَالضَّمِيرُ فِي (إِنَّهُمْ) يَعُودُ حِينَئِذٍ إِلَى مَذْكُورِينَ فِي الْقَوْلِ غَيْرِ مَطْوِيِّينَ، وَكَذَلِكَ الضَّمِيرُ فِي (مِنْهُ) .
وَإِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً مِنْ نَاحِيَتَيْنِ:
الْأُولَى: تَسْلِيَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَالثَّانِيَةُ: بَيَانُ أَنَّ الِاخْتِلَافَ وَالْجَدَلَ تُمَيَّعُ فِيهِمَا الْحَقَائِقُ، وَيَحُلُّ مَحَلَّهَا الشَّكُّ وَالرَّيْبُ، اللَّهُمَّ هَبْنَا الْوِفَاقَ، وَجَنِّبْنَا الشِّقَاقَ، وَقَدْ أَكَّدَ اللَّهُ تَعَالَى شَكَّ الْقَوْمِ بِـ إِنَّ وَبِاللَّامِ وَبِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ.