وأخذ من بعد ذلك يبين أنه الغني بالحق الأعلى وأنهم مهما يكونوا قد أوتوا من مال وجاه وقوة، فلن يكونوا كمن هداه الله تعالى، فقال تعالت حكمته: لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم ولا تحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين وقل إني أنا النذير المبين
أي لا تطمع، ولا تلتفت، ولا يغرنك ما متعنا به أزواجا أي أصنافا متقابلة منهم فيهم الغنى وجاه الدنيا والقوة والغرور والطغيان، والكفر.
وعبر سبحانه عن الطموح إلى ما هم فيه والغرور به فلا يغررك تقلبهم في البلاد عبر عن ذلك بمد العين؛ لأن هذا يسترعي النظر فكأن الأعين تمد إليه، ولا تنحرف عنه.
لا يغرنك هذا ولا يسترعي نظرك، فإن هذا أمر إلى فناء، وما يدعو إليه أمره إلى بقاء، وإذا كان ذلك أمرا فيه متعة وقتية، فقد أوتيت الحكمة وفصل الخطاب، أوتيت القرآن ومثله معه، وأي قدر مما أتوا يقارب قيمة ما أوتيت من الحق وعزة الحق؟ ونهى الله تعالى عن الحزن على الكافرين كما نهى عن أن يغتر بهم، فقال: ولا تحزن عليهم ولا تذهب نفسك عليهم حسرات، وإذا كان لا يغتر بما أوتي المشركون من أسباب النعيم، فإن من معه من المؤمنين هم الأولى بالرعاية والحفظ لأنهم الذين هم ذخيرة الإيمان؛ ولذا قال تعالى: واخفض جناحك للمؤمنين أي تطامن وارفق بهم ولن لهم بجانبك، ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك
[ ص: 4112 ] وقد عبر سبحانه عن لين الجانب والرفق وتقريب القلوب وإدنائها بقوله: واخفض جناحك وذلك مجاز بالاستعارة مشهور، فشبه سبحانه وتعالى حنو محمد - صلى الله عليه وسلم - على أتباعه، بوضع الطائر أولاده بين جناحيه، للمبالغة في الحيطة والحفظ والصيانة. وإن هذا النص السامي تصغير لما عند المشركين، وتعظيم لمن آمن، كقوله تعالى: ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين
وإن هذا النهي لصاحب الرسالة عن أن يمد عينيه إلى ما متع الله به الأقوياء وأعطاهم أزواجا متماثلة من متع الدنيا هو نهي لأمته، وفيه بيان كيف يتدلى الحق إذا مد صاحبه العين إلى ما عليه أهل الدنيا، فإنه هنا تكون المذلة ويكون التدني عن مقام الحق الأعلى، إلى المنزلة الدون أمام أهل المال والجاه والسلطان والباطل، وهو سلطان أهل هذا الإيمان.
ولقد قال القرطبي في تفسيره في التعليق على هذه الآية: «رأى القراء المخلصون من الفضلاء الانكفاف عن الذات والخلوص لرب الأرض والسماوات أولى، لما غلب على الدنيا من الحرام، واضطر العبد في المعاش إلى مخالطة من لا تجوز مخالطته، ومصانعة من تحرم مصانعته، فكانت القراءة أفضل والفرار من الدنيا أصوب للعبد وأعدل. قال - صلى الله عليه وسلم -: اهـ. «يأتي على الناس زمان يكون خير مال المسلم غنما يتبع بها شعف الجبال ومواقع المطر، يفر بها من الفتن »».
وأحسب أن زماننا أشد الأزمان فتنة في نفسه، إذ تولاه الجهال وسيطر على الفكر الجهال، وتولى على رياسة العلم من يبيعون دينهم لهؤلاء الجهلاء بثمن بخس مهما تكن قيمة الدرهم والدينار، وصح فيه ما روي بحديث قوي السند حتى ادعي تواتره: «إن الله لا ينزع العلم انتزاعا من قلوب العلماء، إنما ينزع العلم بتولي جهلاء يضلون ويضل بهم الناس» أو كما قال صلى الله عليه وسلم.